ملخص رسالة انتصار عباس فارس

بسم الله الرحمن الرحيم

 

       الحمد لله ، أحمده فوق حمد الحامدين ، وأشكره فوق شكر الشاكرين ، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين ، المدبر بلا وزير ، ولا خلق من عباده يستشير ، الغني عن كل شيء ، وكل شيء إليه فقير ، الحكيم الذي لا تشتبه عليه الأصوات ، والسميع الذي لا تضيع عنده الحاجات ، والرحيم الذي يمحو الذنوب ويضاعف الحسنات . اللهم إني أسألك حسن القبول والرضا ، والعفو عند الممات ، وأصلي وأسلم على سيد الخلق أجمعين ، محمد الصادق الأمين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وصحبه المنتجبين ، إلى قيام يوم الدين …

أما بعد :

       فإنَّ الأساس الصحيح ، والمستوى السليم ، الذي ينبغي على دارس العربية أن يسلكه هو الولوج في معرفة المستوى الصوتي للغة ، ليقف على أسرارها ، ونظمها العجيب ، والبحث في خصائصها ، وظواهرها المختلفة ؛ ليرى محاسن هذه اللغة الشريفة ، ويطلع على مكنون حكمتها الظريفة ، ولا بدَّ حينذاك أن يرجع المراجع إلى الوراء ؛ لينهل من التراث الصوتي الأصيل ، فيزداد بصيرة بلغته بعد أن كان من أهل القليل، ولا يكثر من هذه الكنوز الثمينة إلا بدوام المتابعة والممارسة .

       فكلما عرف الإنسان شيئاً جديداً ؛ تيقَّن أنه في حال فقيرة ، فيطمح إلى الاستزادة ، والبحث ، والتنقيب .

       وهنا تاقت النفس إلى اقتفاء أثر الماضين ، وكنت في حيرة من أمري ، حتى أخذ بيدي الأستاذ المساعد الدكتور ( عادل نذير الحسّاني ) ، ودلَّني على كتاب المقتضب للمبرد ( ت285هـ) ، وحثَّني على دراسة ( التعليل الصوتي ) في هذا السفر البصري القديم ، فشرعت بجمع المادة تلو المادة ، وهالني كثرتها وتنوعها ، ولولا الحفاوة التي رأيتها في شخصه الكريم لما وصلت إلى الضفة الأخرى .عندها عرضت ما جمعت على شيخي المشرف ، فرسم خطة منهجية محكمة ، ولإشفاقه عليَّ حذف ما لا يخل بالموضوع ؛ إذ كانت المادة ضخمة لضخامة المقتضب ، وقد وجدت ضالتي في هذه الدراسة ؛ لأن التعليل وسيلة غنية وإجراء ثر من أهم الوسائل والإجراءات التي احتضنها اللغويون الأوائل في بيان أحكام الأصوات اللغوية ، وشرح أساليبها ، وعرض القواعد المستقاة من الاستعمال اللغوي ، ولذلك اتسعت دائرة التعليل في معظم مستويات اللغة ، فظهر التعليل النحوي والتعليل الصرفي والتعليل الصوتي والتعليل الدلالي ، ولكل ظاهرة لغوية تعليلات وإجراءات خاصة بها عجَّت بها الكتب والرسائل الجامعية فيما بعد، فأنارت الطريق أمامي ، ومنها : كتاب ( التعليل الصوتي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث – قراءة في كتاب سيبويه ) للدكتور عادل نذير ، ورسالة الماجستير ( الدرس الصوتي عند المبرد ) للباحثة فاطمة عبد الصاحب مهدي البياتي ، التي عرضت المادة الصوتية في كتب المبرد ، من دون ذكر التعليلات – وهذا ليس انتقاصاً من جهد الباحثة – وغيرهما كثير درس فيها الباحثون المجال الصوتي عند علماء اللغة على مر العصور ، وعند الفريقين البصرة والكوفة ، دونت قسماً كبيراً منها في قائمة ( مصادر البحث ومراجعه ) .

       لقد احتلَّت ظاهرة التعليل حيزاً واسعاً في المصنفات اللغوية التراثية ، واحتكم القدماء إليها بتأويلاتهم الانطباعية ، وما ألفوه وما استشعروه وتحروه في التعامل الصوتي الدقيق مع امتلاك ناصية علوم العربية(1) ، وكان النقد والتصحيح واضحين بينهم، ومن ذلك قول المبرد : (( إن الذي يغلط ثم يرجع لا يعد ذلك خطأ ؛ لأنه قد خرج منه برجوعه عنه ))(2) ، وقوله أيضاً : (( لا أتقلَّد مقالة متى ألزمتني الحجة ))(3)، ولذا برع المبرد في الجدل والمناقشة ، وبذلك اعترف الزجّاج ( ت311هـ) وهو ما ذكرته كتب التراجم والطبقات(4) .

       واستلهم المحدثون معطيات الدرس اللغوي القديم ، والتقطوا القوانين الصوتية العامة التي انسجمت وطبيعة اللغة ، وكشفت عن تاريخ لغتهم ، ومراحل تطورها ، ونفروا التخريجات والتأويلات التي شابهت الأحاجي والألغاز ، ومهما يكن من أمر ، فإنّ الموضوع فتحت بابه على مصراعيه على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت175هـ) بمقولته المشهورة عن مصدر العلل ، التي سيكون الحديث عنها في موضع التمهيد ، مع رصد المحاولات والجهود التي سبقته من عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي ( ت117هـ).

       ولم أغفل ربط الجهود الصوتية بما توصل إليه علماء اللغة المحدثون عن طريق الأجهزة الحديثة والمختبرات الصوتية ، ومؤلفاتهم الكثيرة ؛ لتكوين الرؤى المتضافرة ، والإقرار بفضل الفريقين ( قديماً وحديثاً ) .

       ولم يكن رغبة مني فحسب ، بل فرضته طبيعة الموضوع ، من الجهد المضاعف في التقصي والتتبع في المصادر القديمة والمراجع الحديثة ، وبشتى التخصصات الفرعية، والتي تمخضت عن النحو واللغة والصرف والقراءات القرآنية واللهجات العربية القديمة ، فضلاً عن الصوت ؛ سعياً مني للوصول – بقدر المستطاع – إلى الحقائق العلمية السليمة .

       وبعد أن اكتمل كل شيء من جمع المادة وتقسيمها ، انتظم البحث في تمهيد وثلاثة فصول ، وخاتمة ، أوجزت في التمهيد القول في نشأة العلة الصوتية ، ومنهج المبرد في التعليل الصوتي في كتابه المقتضب ، مما آنسني قراءة كتابه مرات ومرات ، لرسم الخطوط الواضحة في منهجه ومسالكه .

       أما الفصل الأول ، فقد جاء البحث فيه ( التعليل الصوتي على مستوى الصفات )، وقسمته على ثلاثة مباحث ، تناول المبحث الأول تعليل الصفات السمعية ، وضمت فيه مواطن التعليل التي اتصفت بها هذه الأصوات والأثر السمعي المرافق له .

       وجاء المبحث الثاني ليتناول الصفات النطقية وما يرافقها من تغييرات ومواطن التعليل فيه .

       أما المبحث الثالث فقد تناول تعليل الصفات المخرجية ، وما يرافقها من تغييرات، وبيان مواطن التعليل فيها .

       وفي الفصل الثاني تناولت موضوع ( التعليل الصوتي في مستوى الصوامت ) ، ودرست فيه الظواهر الصوتية المرافقة للصوامت في ثلاثة مباحث ، تناول المبحث الأول التعليل الصوتي لمظاهر الهمز ، والمبحث الثاني : التعليل الصوتي لمظاهر الإبدال ، فيما تناول المبحث الثالث : التعليل الصوتي لمظاهر الإدغام .

       أما الفصل الثالث فقد تناولت فيه موضوع ( التعليل الصوتي في مستوى الصوائت ) ، وفيه ركزت على التعامل الصوتي للصوائت العربية ، وتوزع إلى ثلاثة مباحث ، تناول المبحث الأول : التعليل الصوتي لمظاهر الإمالة ، والمبحث الثاني : التعليل الصوتي لمظاهر الإعلال ، والمبحث الثالث : التعليل الصوتي لمظاهر الإتباع الحركي .

       وقد أعرضت عن ذكر حياة المبرد وترجمته ، لكثرة ما كتب في ذلك ، ومما كتبته الدكتورة خديجة الحديثي وعبد الخالق عضيمة ، وغيرهما كثير .

       عملي هذا لله ، فإن وفقت فبفضل من الله ( جل وعلا ) ، وإن أخطأت فحسبي أنَّ كل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوّابون ، على أنني بذلت من الجهد ما يعلمه الله وحده ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين .

 

 

الباحثة


(1) ذكر الأنباري ( ت577هـ) ثمانية من هذه العلوم ، وهي : النحو واللغة والتصريف والعروض والقافية وصنعة الشعر وأخبار العرب وأنسابهم . ينظر : نزهة الألباء في طبقات              الأدباء : 76 .

(2) المزهر : 2 / 203 ، والمقتضب / مقدمة المحقق : 1 / 18 .

(3) مجالس العلماء : 123 ، والمقتضب / مقدمة المحقق : 1 / 15 .

(4) ينظر : أخبار النحويين البصريين : 118 – 119 ، وبغية الوعاة : 3 / 249 – 250 .