لواء عبد الحسن عطية

المقدمــة

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى،                 

أمّا بعد.

فإنّ الحقول المعرفية الضابطة للمنظومات المفهومية في العلوم الإنسانية تتغيّر وتتطوّر؛ لتطور الرؤى المنتجة فيها نظريات جديدة تضبطها مصطلحات معينة.

ومن هذه الحقول المتطوّرة (الحقل المعجمي) الذي اتّجه- حديثاً- إلى دراسة التجمّعات اللفظية الدالة على المركّبات و التعبيرات وسواهما، في حين كان هذا الحقل المعرفي معنياً بالكلمة المفردة. ويطلق اللسانيون على هذه التجمّعات اللفظية “المصاحبات المعجمية Collocation “.

ويعود الفضل في اجتراح هذا المصطلح إلى اللساني الإنجليزي (فيرث)، على الرغم من ورود إشارات في تراثنا اللسانيّ العربيّ تؤكّد وعي علمائنا الأقدمين بهذا المفهوم، لكنّهم لم يؤطّروا وعيهم ذلك بنظرية أو مقولة يمكن أن تكون مستنداً لتأسيسهم.

ونهضت الدراسة ببيان هذا المصطلح في مستويات ثلاثة هي: (المفهوم، والأنماط، والوظائف)؛ لتكون دراسة وصفية وتحليلية وإجرائية في الوقت نفسه.

ومن أَجل إبانة ذلك كلّه جاءت هذه الرسالة بعنوان (المصاحبات المعجمية: المفهوم والأنماط والوظائف).

اقتضت طبيعة البحث أن تنتظم هذه الدراسة بتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة. تكفل التمهيد بإيضاح فرعَيْ المعجمية (علم المعجم, وصناعة المعجم) في ضوء اللسانيات الحديثة, ووقفت الدراسة فيه عند ثلاثة مصطلحات (المعجم, والوحدة المعجمية, والمعنى المعجمي) ومن ثَمَّ أبان أَهم المحدِّدات أَو الطرائق التي سلكها المعجميون العرب- قديماً وحديثاً- في تحديد المعنى أو شرحه في المعجم.

أما الفصول الثلاثة فقد صُدِّر كلّ منها بتوطئة عرَّفت بعنوان الفصل ومحتواه.فجاء الفصل الأول بعنوان: (المصاحبات المعجمية: المصطلح والمفهوم), وتكوّن من مبحثين:

اختصّ المبحث الأوّل منهما بدراسة المقابلات المصطلحية العربية للمصطلح الوافد “Collocation“, في حين كان الثاني معنياً بدراسة مقاييس تعريف “المصاحبات المعجمية”.

وجاء الفصل الثاني بعنوان: (أنماط المصاحبات المعجمية)، وضمّ مبحثين:

تناوّل الأول منهما دراسة أَنماط “المصاحبات المعجمية” على وفق الخصائص, في حين اختصّ المبحث الثاني بدراسة أَنماط هذا المصطلح على وفق الاستعمال.

وجاء الفصل الثالث بعنوان: (وظائف المصاحبات المعجمية), وتكوّن من مبحثين أَيضاً:

اختصّ الأوّل منهما بدراسة وظيفة”المصاحبات المعجمية” في صناعة المعجم, في حين تناول الثاني دراسة وظائف هذا المصطلح في التفسير والتحقيق.

وأفضى البحث بعد ذلك إلى مجموعة من النتائج التي كانت الخاتمة موضعاً لها.

وحريّ بالباحث أن يشير إلى أنّه أفاد كثيراً- في كل خطوة من خطوات هذه الدراسة- من المصادر القديمة والحديثة, ولاسيّما المعجمات العربية, ومصادر اللسانيات, ومجموعة من البحوث العلمية.

وأهمية هذه الرسالة تأتي من أنّها دراسة نظرية وإجرائية في مصطلح حديث من حيث التأسيس المعرفي. علماً أنَّ رصيده المعجمي زاخر ومتعدد في التراث اللغوي العربي, هذا من جهة.

ومن جهة أخرى, إنَّ هذه الدراسة بدأت مسارها العلمي في صفحتين في كتاب “علم اللغة المعاصر” للدكتور يحيى عبابنة (الذي أرشدني إليه المشرف)، وانتهت– بتوفيق الله وتسديده- إلى هذه الرسالة التي بين أيديكم.

          وبعد أن قطعت هذا الشوط البحثي المضني الذي لم يُمهَّد- من قبل- برسالة جامعية- بحسب شهادة أهل الاختصاص-، جاءت هذه الرسالة: دراسة تأصيلية في موضوعها، بِكراً في عنوانها، جديدة في إجرائِها.

ومهما يكن من شيء, فإنَّ هذه الدراسة تَعدُّ نفسها محاولةً في موضوعها, ووصفها بالمحاولة ليس الغاية منه تسويغ هفواتها, ولا الاعتذار عن تقصير صاحبها, بل هو في حقيقته إيمان بأنّها لا تستطيع إلاّ أَنْ تكون محاولة؛ لانتمائها إلى حقل معرفي يزداد كلّ يوم جدّة وحداثة.

وليس لي في ختام هذه المقدمة إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل والثناء الجميل إلى مَن تفضّل عليّ بهذا الموضوع مقترَحاً علمياً صالحاً للبحث، وأتمّ فضله بإشرافه عليه، وهو الدكتور (مشتاق عباس معن) أستاذ اللسانيات المساعد بكلية التربية ابن رشد/ جامعة بغداد, الذي تعهدني بمعين علمه الذي لا يغيض، وغمرني بتواضعه الكبير، وضاعف فضله بأن أعارني من مصادره المنتقاة ما أفدت منها أيّما إفادة، وما هذا المشروع إلا جنىً من جنى غرسه الطيب, فجزاه الله عني وعن طلابه خير الجزاء وأكرمه.

          وشكري الوافر أيضاً إلى أعضاء لجنة المناقشة المحترمين، الذين سيرفعون بملحوظاتهم السديدة من شأَن هذه الرسالة، فجزآهم الله خير جزاء المحسنين.

          وأرجـو أن تضيف هذه الدراسة إضافـة جديـدة إلى المكتبـة العربيـة، وأن تكون منطلقاً لدراسات تنظيرية و إجرائية في تراثنا المعجميّ الثرّ, فإنْ حالفني التوفيق فمن عنده سبحانه، وإلاّ فحسبي صدق النية، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أُنيب.