علي عبد الله عفريت الحريشاوي

 

 

المستخلص

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه الاكرم محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين وعلى صحبه المنتجبين وعلى جميع انبياء الله ورسله وملائكته الصالحين.

 

المقدمــة

أولاً. فكرة موضوع الدراسة:

إن التقدم الاجتماعي يسبق دائماً التطور القانوني، لان القانون ثابت بطبيعته والفكر الاجتماعي متغير، إذ ان الوقائع بين اشخاص الاناسي غير متناهية، والنصوص والافعال والاقرارات متناهية، ومحال ان يحكم مالا يتناهى بما يتناهى.

لقد ادرك الانسان في العصور الاولى من الحياة، وبعد مدة قصيرة امضاها متنقلاً من مكان إلى آخر انه لابد له ان يستقر ويجتمع إلى إخيه الإنسان، مكوناً جماعة تعيش متعاونة في بقعة من الارض.

وامر طبيعي ان يدخل افراد هذه الجماعة في علاقات عديدة متنوعة فيما بينهم، ويمكن ان تحصل منازعات وخصومات بسبب توافق المصالح وتضادها ومن هناك إدرك الإنسان ضرورة وجود قواعد قانونية تحكم وتنظم تلك العلاقات وتدفع بحل الخصومات، لذلك فان وجود ضابط لنظم شتى العلاقات وضبطها استشعر الانسان ضرورة وجوده بقدر ضرورة الحياة إن لم يكن اكثر، ذلك هو القانون، ومن دونه سيغدو المجتمع مجتمع غوغاء تتحكم فيه شريعة الغاب وتكون الغلبة للاقوى.

إن ظاهرة وجود القاعدة القانونية تشيع عند كل مجتمع بشري منظم تحكمه مصالح مشتركة بصرف النظر عن نوع هذا المجتمع ولونه، فالقانون ملازم للمجتمع ولا حياة للمجتمع بلا قانون، ولذا فان القانون وليد ظروفه وعوامله، سياسية كانت أم اقتصادية أم تاريخية أم غير ذلك من العوامل الاخرى.

ونتيجة تغير هذه العوامل وتبدلها يحاول علماء القانون ومن وراءهم المشرعين المواءمة بين تلك الظروف والعوامل وبين قواعد القانون، بالاعتماد على وسائل وادوات كان لها وقع واثر في تطوير القانون وازدهار قواعده، الا ان هذا لم ولن يـاتي بقانون كامل، إذ القانون ومن خلفه واضعه لا يستطيع أن يلاحق التطورات والحوادث المستجدة مهما اتيح له من دراية ومن حنكة، وعندها تبقى ثمة قواعد قانونية ليست موجودة كان ينبغي أن توجد، وثمة قواعد قانونية يجب تلطيفها وتفهم روحها قبل تطبيق نصها تطبيقاً حرفياً حتى يتاح لها شمول الكثير من الوقائع.

 

ثانياً. مشكلة الدراسة:

إن القانون بحكم اصل نشأته محكوم من وجهة نظر انسانية بعدم القدرة على مليء مساحة كل العلاقات الاجتماعية بصرف النظر عما اذا كان سماوياً أم بشرياً، وهو محكوم بعدم بلوغ كل الحالات والوقائع، لان الاحاطة بما هو غير محدود ومتناه لا يكون إلا لمن هو بكل شيء محيط هو وحده سبحانه وتعالى ولمن ارتضى ممن اصطفاه من العالمين، فيبقى التنبؤ والاحاطة بكل الحالات والوقائع من لدن بني البشر امر مستصعب بل يكاد يكون مستحيلاً، لذلك يوجد الفراغ في القانون حيناً من دون إرادة أحد، أي يقع طبقاً لطبيعة الامور فيكون غير عمدي واحياناً يقع عن عمد وعن قصد لغرض ما هنا أو هناك. ومرد الحالتين أذن، لأسباب تارة قد تكون مختارة واسباب لا تكون مختارة تارة اخرى، وفي كلا الحالتين لابد من علاج مشكلة الفراغ.

وبما ان غاية القانون لا تقتصر على حفظ المجتمع والخير العام بل تتعدى إلى تحقيق العدل والخير العام، وإن كان ذلك ليس بالأمر اليسير، لأن من الصعوبة رسم العدالة فضلاً عن حدها؛ ذلك لأن العدل في كل زمان ومكان وقوم بحسبه، والعدالة هي اشخاص عصر معين في بلد معين يحكمون بالعدل، وحتى تتحقق مستلزمات ذلك ينبغي تحقيق العدالة الحقيقية لا العدالة الشكلية بمعنى ان تكون الحقيقة القضائية أقرب ما تكون إلى الحقيقية الواقعية؛ ومقتضى ذلك عدم تصور عمل القاضي على أنه آلة ميكانيكية تودع لديها المواد الأولية ليستخرج منها مادة مصنعة اسمها الحكم، إذ يتعين الأخذ بعين الاعتبار مسألتين مهمتين بهذا الصدد هما: اولاً- هو ان يمنح القاضي دوراً إيجابياً بصدد تطبيقه القانون. ثانياً- الابتعاد عن التطبيق الحرفي الشكلي للقانون. وهذا قائم على افتراض ان هدف القواعد التي يفسرها القاضي ويطبقها يتفق مع العقل. بمعنى أدق، ينبغي ان لا تؤدي تلك القواعد إلى الظلم أو تنتهك المبادئ الاخلاقية الثابتة.

بيد ان الأمر لا يقتصر على قواعد قانونية كما في الحالة المذكورة آنفاً، بل ثمة أحوال يتعذر معها ايجاد قواعد قانونية لحكم ما يطرح من نزاعات وخصومات جديدة.

وعلى الرغم من وجود النصوص القانونية، إلا ان عمل القاضي له أثره الواضح بالقدر الذي لا يكون روتينياً وميكانيكياً، فثمة فراغ تشريعي ينبغي سده وثمة إلتباسات ينبغي ان توضح وثمة شدة ينبغي تلطيفها وثمة فراغ في قواعد قانونية من غير المصادر الاخرى للقانون يتعين اللجوء إلى اعمال حكم بديل عنها، فالفراغ في القانون يُعد مشكلة لافتقاد حكم حالة يراد ايجاد حل لها من جهة ويعد مزية لانه يحرك القانون نحو التطور ونبذ الجمود ليرتقي إلى المواكبة والمواءمة وسهولة التطبيق من جهة اخرى.

وإزاء الاهمية التي يشكلها بحث موضوع الفراغ في القانون لتوجيه القاضي نحو ايجاد حل للنزاع المعروض أمامه وابتغاء تحقيق العدالة والخير العام للمجتمع ولاطراف الخصومة في ان يكون القضاء مطمئناً وعاجلاً وعادلاً، فإن هذه وحدها لا تكون كافية مالم يؤطر الموضوع بأطره القانونية السليمة، في ظل التغير الملحوظ والمتسارع في الوقائع والحوادث وزيادة الضبابية وعدم الوضوح التي تحيط تطبيق القواعد القانونية على هذه الوقائع والحوادث والمشكلات القانونية التي تثار بشأنها، والتي تظهر في جوانب متعددة منها:

1-     ماذا يراد بالفراغ في القانون؟ هل يقصد به القصور أم النقص أم الاغفال التشريعي أم عدم وجود حكم كلي أو تفصيلي لواقعة معينة؟ وهل ثمة نظريات قد قيلت فيه ومن منها يثبت ويصمد أمام النقد؟ وهل ثمة انواع للفراغ أم لا؟

2-     ماذا يقصد بمنطقة الفراغ؟ وهل ان هذا المصطلح له أساس واقعي في الشريعة؟ وهل ان منطقة الفراغ تماثل من حيث طبيعتها وماهيتها الفراغ في القانون، وما وجه الشبه والاختلاف بينهما؟

3-     كيف يمكن اثبات الفراغ في القانون؟ وهل ان دعوى عدم وجود نص تشريعي يمكن الركون إليه لحكم واقعة معينة تكفي للقول بهذا الفراغ؟ وهل توجد أدلة كافية للقول بوجود فراغ في غير النصوص التشريعية.

4-     إذا تم التسليم جدلاً بوجود فراغ في القانون؟ فما هي الاسباب التي أدت إلى حصوله؟ هل هو الانحراف بالقاعدة القانونية عن المبادئ العليا كسيادة القانون والمساواة أمامه؟ أم هو عيب الصياغة؟ أم للزمان والمكان دوراً مؤثراً في نشوء هذا الفراغ؟

5-     قد لا يجد القاضي حلاً للنزاع المعروض أمامه، فهل من موجهات يستطيع الركون إليها؟ وإن وجدت، فهل هو ملزم للأخذ بها؟ أم لا؟ وإن تعذر وجود مثل هذه الموجهات، فما هو الحل بإزاء عده ناكلاً عن إحقاق الحق إن لم يجد حكماً للحالة المعروضة أمامه؟

 

ثالثاً. أهمية الدراسة وأهدافها:

إن مشكلة إيجاد حل للنزاع المعروض أمام القاضي أخذت مجالاً واسعاً وحيزاً كبيراً في الفكر القانوني سواء على مستوى القضاء والفقه أم على مستوى التشريع، لأنها مشكلة معقدة لازمت ومازالت تلازم القضاء في الكشف عن مدى قدرته في ضمان تحقيق العدل في المجتمع وإيصال الحقوق إلى اصحابها وضمان تمتعهم بمزاياها وفي ضوء المصلحة الاجتماعية للحق.

فما نشهده وتقرأه بين الحين والآخر حول الوقائع التي تعرض على القضاء والتي لم يجد لها حلاً بسبب تعقد المسائل وإزدياد العوامل المتنازعة والقيم المتصارعة التي باتت متباينة أكثر من ذي قبل، والتغيير الذي اصبح متواصلاً أكثر فأكثر في الواقع العملي مع ملاحظة ذلك القصور التشريعي المقابل له، قد دفعنا للخوض في هذا الموضوع، إذ يمكننا ان نستشف تلك الاهمية من جانبين، اولهما: علمي، والآخر عملي، أما الأول: فلقصور الدراسات العلمية في العراق في هذا الموضوع أو لندرتها، وليس من المبالغة في شيء القول ان الامر يمتد إلى الفقه المقارن؛ لذلك فان تلك الندرة وذلك القصور في الدراسات في هذا الموضوع يشكل أهمية بالنسبة لأي باحث كونها أرضاً بكراً يخوض فيها الباحث مؤسساً لقدم مسبق ممهداً للباحثين من بعده.

وأما الجانب الآخر وهو الجانب العملي: فتأسيس الجانب العلمي والخوض في مناقشة الآراء الفقهية حول موضوع الدراسة واستعراض النصوص التشريعية حيالها لا تكون غايته الوحيدة وحسب، بل انها تستتبع ثمارها في الميدان العملي، فالبحث في هذا الموضوع نهدف من وراءه تحقيق غايتين رئيستين هما:

الغاية الاولى: وهي قانونية – وتتمثل بتسليط الضوء على هذا الموضوع وتحليل وتقويم نصوصه مقارنة بالقانون المقارن ودعوة مشرعنا الكريم إلى تبني النصوص المقترحة في تقنينه لسد الفراغ في القانون محل الدراسة، فضلاً عن كونه محاولة لرسم صورة الفراغ في القانون عبر سبر اغواره وبيان كنهه ومعرفة مسبباته واثبات وجوده وصولاً إلى وضع الحلول له ورسم طريق معالجاته، على امل وضع نظرية عامة تلم شتاته وتجمع متباعداتـه.

والغاية الأخرى: وهي تنظيمية- تتمثل في توجيه القاضي والكشف عن دوره إذا ما عرضت عليه واقعة ليست لها قاعدة تحكمها سواء في التشريع أو في غيره من مصادر القانون، أو إذا كانت القواعد القائمة قد اصبحت غير منطقية وربما ظالمة بسبب تطورات الحياة التي لا تتوقف.

 


رابعاً. منهجية الدراسة وإطارها:

إن بحث هذا الموضوع إلهام يقتضي منهجية أساسها المقارنة بين القوانين الوضعية وبخاصة العراقي والفرنسي والانكليزي وبين الفقه الإسلامي، ويكون ذلك عبر عرض المسألة موضوع البحث، واستعراض أقوال الفقهاء فيها، وبيان أدلتهم ومقارنتها ثم اختيار ما وقع عليه الترجيح أو استخلاص المبدأ العام للموضوع.

إن ثمة موضوعات اقتضت خطة البحث التعرض لها قبل غيرها وأخرى رأينا من الصواب تقديمها على غيرها لاعتبارات تنظيمية أو تنسيقية، أو لاعتبارات تتصل بوحدة الموضوع أو تناظر أجزاءه.

إن هذه الدراسة تضم بين دفتيها الأحكام العامة للفراغ في القانون بوجه عام وأحكام سد هذا الفراغ بوجه خاص، لان من المناسب للبحث العلمي الإلمام بالأحكام العامة للفراغ في القانون عند التعرض بالبحث التفصيلي لسد هذا الفراغ، ولما كان مجال اهتمامنا الأصيل هي المبادئ العامة والقواعد المدنية، فإننا لا نقصد بعبارة القاعدة المدنية القاعدة القانونية في القانون المدني، بل نقصد اضافة إلى ذلك القاعدة القانونية في القانون التجاري وفي الأحوال الشخصية وفي قانون المرافعات وبشكل عام كل قواعد القانون الخاص فضلاً عن قواعد القانون العام ماعدا قواعد القانون الجنائي وقواعد القانون الدولي العام على غرار ما تشير له الأسباب الموجبة لقانون المرافعات المدنية من ان الدعوى المدنية تعني في فقه القانون اضافة إلى الدعاوى المدنية، الدعاوى التجارية ودعاوى الاحوال الشخصية وكافة الدعاوى غير الجزائية.

إن الفراغ في القانون حالة أو ظاهرة قد تحصل في كل فروع القانون، مرة تجده في القانون الخاص بشتى فروعه، ومرة تجده في القانون العام ايضاً، إلا ان البحث عبر تساؤلاته وإجاباته يجرى على نطاق القانون الخاص، بل على أجل فروعه –القانون المدني- وان تعدى بالميل قليلاً من هنا أو هناك بغية التوضيح والاستزادة، كالرجوع إلى قواعد القانون الإداري وبعضاً من أقضيته.

وإذا جرى البحث وفقاً للمنهج المقارن الذي رسمه تحليلاً للنصوص وتفحصاً للمواقف والاتجاهات الفقهية، فانه في الوقت ذاته لم يهمل التطبيقات العملية واوردها بالقدر الضروري لايضاح هذه النصوص، وللايمان بان الفراغ في القانون هو من الموضوعات العملية التي يظهر مجاله في التطبيق؛ ولأن حياة القانون في تطبيقه ولا فراغ الا بالتطبيق، إذ إن القرارات القضائية تعد أحدى الدعامات الأساسية التي قام عليها هذا البحث، وقد استندنا إليها لدعم وتأييد الآراء الواردة فيه.

 

خامساً. خطة الدراسة:

وفي ضوء هذه المنهجية وتحقيقاً لأهميته المذكورة من البحث في الفراغ في القانون وصولاً للغاية المبتغاة في جوانبها المختلفة بقدر الاستطاعة. ووفقاً لما تقدم فقد انتهجت الدراسة اسلوباً منطقياً علمياً، استهلت بدراسة حقيقة الفراغ في القانون في الباب الاول، إذ قسم البحث فيه على فصلين: الاول في مفهوم الفراغ في القانون، والثاني في الاسباب التي أدت إلى وجود الفراغ في القانون، ثم عقد الباب الثاني لبحث دور مصادر القانون في سد الفراغ في القانون الذي تفرع إلى فصلين، اولهما: في دور المصادر الاصلية لسد الفراغ في القانون، وثانيهما: في دور المصادر المساعدة في سد الفراغ في القانون.

على ان البحث ينتهي بخاتمة تم تضمينها اهم النتائج التي توصل إليها الباحث والمقترحات والتوصيات التي خرج بها البحث من هذه الدراسة.

نسأل الله ان نكون قد وفقنا في المساهمة في ايضاح معالم هذا الموضوع وإرساء قواعده عل أسس علمية سليمة، على الرغم من شحة الدراسات العلمية، إذ لم يسبق ان وجدت دراسة أكاديمية أو حتى كتاب قانوني في المكتبة القانونية العراقية بشكل خاص والعربية بشكل عام وكلاهما يفتقران إلى ذلك، إلا إننا لم نأل جهداً في استنفاد جميع المصادر التي حصلنا عليها فضلاً عن مراجعتنا المستمرة للمحاكم ومتابعة ما يصدر من اقضية بصدد الموضوع منها.

والله المستعان