الافتراضُ الصّوتيُّ عندَ ابنِ جني في كتابِهِ المحتسَبِ

عمّار عبد العبّاس عزيز الشمّريّ

         الافتراضُ الصّوتيُّ عندَ ابنِ جني في كتابِهِ المحتسَبِ   الماجستير في اللغةِ العربيّةِ / اللغةِ

الخلاصة

فلمّا لامَسَ كلامُ اللهِ أسماعَ العربِ ، تملّكَ شعورَهم ، وأيقظَ في وجدانِهم إدراكًا بقيمةِ لغتِهم ، وهمّةً للغوصِ في لجّاتِها ، فشمّرَ مَن شمّرَ عن ساعدَيه باحثًا وجامعًا ومفسّرًا ومعلّلًا ، تحتَ تأثيرِ سجيّةٍ إنسانيّةٍ تتطلّعُ – ما دامت – إلى علّةِ الموجوداتِ ، ومنهجٍ غضٍ جاءَ مُتأخّرًا على اللغةِ ، ففاتَه تقلّبُها في التأريخِ حتّى وصلت إلى ما هيَ عليهِ ، والكثيرُ مِنَ الأسبابِ الّتي تُوجّهُ مساراتِها ، وتُنتجُ اختلافًا لدى أصحابِها في تأديتِها ، فكانَ حتمًا بعدَ هذا أن نجدَ الافتراضَ في مساحةٍ يُعتدُّ بها فيما دوّنَه أهلُ اللغةِ ، وقد طالَ جميعَ مستوياتِها ، يُنظّمُ مِن أمرِها ما اختلفَ ، ويُقمّصُ ظواهرَها بمسوّغاتٍ وعللٍ على ثَقَفٍ .

  مِن أجلِ هذا كانَ أمرُ الافتراضِ مهمًّا ؛ لأنّه يُسهمُ في التحليلِ و التأصيلِ ، ويُوسّعُ دائرةَ البحثِ اللغويِّ ، ويُصوّرُ لنا تلكَ العقليّةَ الّتي قعّدتِ الكثيرَ مِن مسائلِ اللغةِ بواسطتِه ، فوجدنا أنّ تناولَه مِنَ الأهميّةِ الّتي توازي حجمَه ، ثُمَّ فتّشنا عن مكانٍ خصبٍ ، حتّى تجيءَ الدراسةُ بحصيلةٍ طيّبةٍ ، فوجدناه في المستوى الصوتيِّ المنجزِ لتسويغِ القراءاتِ الشاذّةِ ، وهذا لا يَنفي ما عداه ، لكنّه قد تُنووِلَ في الصرفِ والنحوِ في أبحاثٍ سنشيرُ إليها تباعًا .

وإذا كانَ الدرسُ الصوتيُّ عندَ القدماءِ قائمًا على الذائقةِ ، متّسمًا بالذاتيّةِ ، فهو محلٌّ خصبٌ للافتراضِ ، على مستوى المخارجِ والصفاتِ والتعليلاتِ وغيرِها ، يُعينُنا عليه الدرسُ الصوتيُّ المعاصرُ بإنجازاتِه العلميّةِ الّتي قلّصَت إزاحتَه . وبمقارنةِ الخالِفِ الجديدِ بالسالِفِ البعيدِ نعرفُ أسلوبَ القدماءِ في تناولِهم قضايا اللغةِ ونتاجَه ، والهدفَ الّذي دفعَهم للافتراضِ في مسائلِ اللغةِ .

ومِنَ الإنصافِ وصدقِ الاعترافِ أن أذكرَ أنّ مَن هيّأَ لي هذا الأمرَ هو أستاذي الفاضلُ الدكتور عادل نذير بيري ، فقد اقترحَ عليَّ دراستَه عندَ عالمٍ مميّزٍ يُعدُّ مدرسةً ذاتَ شأنٍ ، إنّه ابنُ جني (392هـ) ، وفي سفرٍ ألّفَه في القراءاتِ الشاذّةِ ، أعني كتابَه المحتسَبَ . وإلى الآنَ أذكرُ مضمونَ كلامِ الدكتور حفظَه اللهُ : إنّ في توجيهِ الشواذِّ مِنَ القراءاتِ باعثًا كبيرًا على الافتراضِ ، لأنّ القراءاتِ خالفَت مشهورَ اللغةِ ، وحتّى يُدافعُ عنها أبو الفتحِ فسيلبسُ لبوسَ الافتراضِ … فجاءَ العنوانُ مِنه مُتفضّلًا .

وبعدَ قراءاتٍ معمّقةٍ للموضوعِ وحيثيّاتِه آمنتُ به ؛ فقد ثَقّفَ مِن مداركي الكثيرَ ؛ لأنّه على تماسٍ بكتابِ اللهِ الكريمِ ، فضلًا عن أنّ الدراسةَ الصوتيّةَ تسندُ الباحثَ في مستوياتِ اللغةِ الأخرى ، وأيضًا فقد تَثبّتَتِ الرغبةُ في أثناءِ مُطالعتي أطروحةَ الدكتور حيدر عبد علي ، إذ وردَت في الصفحةِ (229) توصيةٌ بإجراءِ دراسةٍ للافتراضِ في مؤلّفاتِ ابنِ جني .

وبسببِ طبيعةِ المادّةِ جاءَت الدراسةُ بمنهجٍ وصفيٍّ تحليليٍّ مقارنٍ ، يأخذُ النصَّ الّذي فيه الافتراضُ فيُحلّلُه ، ويستشعرُ قيمةَ الرأيِ فيه ، وفي المقابلِ تتمُّ معارضتُه بما توصّلَ إليه العلمُ الحديثُ في الصوتِ ، وقد يُشفعُ برأيٍ للباحثِ .

أمّا الخطّةُ فهي أسيرةُ المادّةِ أيضًا ، فبعدَ جمعِ العيّناتِ وجدولتِها ترشّحَتِ الخطّةُ الآتيةُ مبدوءةً بالتمهيدِ ، وفي نهايتِها خاتمةٌ وثبتٌ بالمصادر والمراجعِ :

تناولَ التمهيدُ جانبينِ : مفهومُ الافتراضِ وما يتضمّنُه مِن تعريفاتٍ في اللغةِ والاصطلاحِ ودورانِه عندَ علماءِ العربيّةِ والأسبابِ الداعيةِ له ، والجانبُ الآخرُ كانَ تعريفًا بكتابِ المحتسبِ وأسلوبَ المصنّفِ في الافتراضِ . أمّا فصولُ الرسالةِ فكانَت كما يأتي : 

الفصلُ الأوّلُ : الافتراضُ الصوتيُّ في الصوامتِ ، وفيه مبحثانِ ، تناولنا في الأوّلِ مِنهما ظاهرةَ الإبدالِ ، وفي الثاني ظاهرةَ الإدغامِ .

الفصلُ الثاني : الافتراضُ الصوتيُّ في الصوائتِ ، وفيه مبحثان أيضًا ، تكفّلَ الأوّلُ ببيانِ ظاهرةِ الإعلالِ ، والثاني خصّصناه لظاهرةِ الإمالةِ في لهجاتِ العربِ .

الفصلُ الثالثُ : الافتراضُ الصوتيُّ في الظواهرِ المشتركةِ ، أي الّتي يشتركُ فيها الأصواتُ الصامتةُ والصائتةُ ، فكان الوقفُ مِن نصيبِ المبحثِ الأوّلِ ، أمّا المبحثُ الثاني فقد خصّصناه للهمزِ ؛ كونَ صوتِ الهمزةِ يتأرجحُ بينَ الصحةِ والعلّةِ .

وقد اعتمدَ البحثُ على المصادرِ الرصينةِ في الصوتِ ، عندَ القدماءِ والمعاصرينَ ، وكانَ همّه أن يكونَ المصدرُ الحديثُ للمجتهدينِ مِنَ العربِ ، لا الناقلينَ ، وقد أفادَ مِن أطروحاتِ بعضِ الغربيّينَ أمثالِ هنري فليش وغيرِه .

وتجدرُ الإشارةُ إلى أنّ مِن أبرزِ الصعوباتِ الّتي واجهَتِ الباحثَ في هذه الدراسةِ العباراتِ المكثّفةَ للمصنّفِ واكتفاءَه في بعضِ التوجيهاتِ بالتلميحِ ؛ لأنّ تصنيفَه هذا كانَ الأخيرَ ، لذا التجأ البحثُ لكشفِ بعضِ مقاصدِه مِن خلالِ مصنّفاتِه الأخرى ، وأيضًا مِن صعوباتِ البحثِ عدمُ شموليّةِ العيّناتِ لحالاتِ الظاهرةِ الصوتيّةِ المدروسةِ ، ما جعلنا نقدّمُ للظاهرةِ تمهيدًا نظريًّا ، يستغرقُ كلَّ حالاتِها ومِن ثَمَّ الذهابُ للمحتسبِ .

ومِنَ الأمانةِ أن أذكرَ الدراساتِ القريبةَ مِن دراستي ، الّتي لم تتناولِ الافتراضَ في الجانبِ الصوتيِّ ، ثُمّ إنّها في الغالبِ تناولتِ الافتراضَ في مفهومِه الضيّقِ ، أعني في البنى العميقةِ أو الأصولِ المرفوضةِ ، أمّا هذه الدراسةُ المتواضعةُ فقد توسّعت في مفهومِ الافتراضِ حتّى دخلَ في بحبوحتِه الافتراضُ في العللِ والتأصيلِ الصوتيِّ عندَ ابنِ جني ، والدراساتُ هي :

1 – الفرضيّاتُ وآثارُها في أحكامِ النحوِ العربيّ ، نجاح بادع حشيش ، (رسالة) ، جامعةُ بغدادَ ، كليّةُ الآدابِ ، 2002م .

2 – الافتراضُ القرآنيُّ دراسةٌ في التعبيرِ ، علي حسين حمّادي ، (رسالة) ، جامعةُ ذي قار ، كليّةُ التربيّةِ ، 2011م . 

3 – الافتراضُ الصرفيُّ دراسةٌ في ضوءِ علمِ اللغةِ الحديثِ ، د. حيدر عبد علي ، (أطروحة) ، جامعةُ كربلاءَ ، كليّةُ التربيةِ ، 2013م .

4 – الأصلُ المفترضُ في العربيّةِ دراسةٌ لغويّةٌ ، د. رعد عبد الحسين حمدوش ، (أطروحة) ، جامعةُ القادسيّةِ ، كليّةُ الآدابِ ، 2017م .