علاوي كاظم كشيش

الخاتمة

 

     يمكن إجمال ما توصل إليه البحث في ما يأتي:

  • تميل حركية الإبداع في الشعر العربي الى البحور المركبة بحكم اتساع اللغة وثرائها وتعدد أساليب الكلام،وفنون البيان.
  • حاول الشعراء الرواد تطويع هذه البحور لنمط الشعر الحر،مثل السياب وشاذل طاقة،ولكن بمدى محدود.
  • تتطلب البحور المركبة في تطويعها لنظام الشعر الحر الخروج عن الفهم المتبع لإيقاع الشعر،إذ أن عدد التفاعيل في الأسطر لا يعود ثابتا،ويمكن تقسيم القصيدة على تفعيلتين مختلفتين،كما في الطويل والبسيط أو ثلاث كما في الخفيف،ولهذا يضعف التوقيع ولا تميل القصائد الى التطريب أو النقر كما في البحور الصافية.
  • اختار البحث مصطلحا بديلا لمصطلح (إيقاع) الذي انحدر من مفاهيم موسيقية الى حقل الشعر،وبسببه تحولت القصيدة الى ما يشبه الأغنية،ويعضد هذا الفهم الشائع بأن الشعر العربي يغنى وينشد وقد نشأت أوزانه من حداء الإبل،وأن الشاعر كان مغنيا،وهو إسقاط يوناني فندته الدراسات الحديثة.على أن المصطلح البديل (الرذم) الذي انفردت هذه الدراسة في اختياره، لا ينفي المصطلح القديم على الرغم من وجوده وامتداده المفهومي في معاجم اللغة العربية والمذخر النقدي العربي.
  • تمتد محاولات تطوير وتعديل النظم على بحور الشعر العربي الى ما قبل القرن الرابع الهجري،فالقصيدة المدورة والشعر المرسل والموشحات،أنجزت في ذلك القرن.
  • إن مفهوم التفعيلة بشكلها الذي صاغه العبقري الكبير الخليل بن احمد الفراهيدي من أجل التوضيح والتقريب فقط،أصبح لها تأثير كبير في معالجة الشعر العربي إيقاعيا بأنواعه،حتى غلبت بشكلها المجرد واكتسبت دلالة ومعنى في بعض الدراسات،ولهذا استبدل البحث بها رمزين مماثلين لما اختاره ابن جنّي في رسم الدوائر العروضية،وهما المقطع القصير والمقطع الطويل ( وَ،وا) وهما كافيان لتمثيل وحدات الوزن الشعري كافة.
  • ولأن أغلب الدراسات التي تتعلق بالإيقاع،غاب عنها الصوت أو (التدوين الصوتي)،فكانت تنجز على الورق بصريا وتتبع الخيال السمعي في إجراءاتها وأحكامها،فقد عمد الباحث الى تسجيل القصائد موضوعة البحث بصوته على قرص ليزري مرافق للبحث ، من أجل إيجاد ضابط صوتي مهما كانت نوعيته لكي يصبح البحث أكثر واقعية في النظر والتحليل.
  • وجد البحث أن بعض الترجمات أضرت من حيث أرادت أن تنفع،إذ تم تداول المصطلحات الأجنبية وتعريبها بطريقة التكييف وإيجاد بديل مهما كان نوعه في اللغة العربية،ولم يكن الأمر يخلو من تعسف،كما في ترجمة الايقاع،والعروض،والتضمين،وبيت الشعر.إذ إنها تعني في لغات أصحابها غير ما تعنيه في اللغة العربية.فكان لا بد من مناقشتها والإشارة إليها.
  • أنجز الشعراء العراقيون منذ عصر الرواد وحتى اليوم عددا لا بأس به من القصائد المنظومة على البحور المركبة وقد تنوعت أشكال الأداء فيها،وترك جلهم محاولاته بعد قصيدة أو قصيدتين.ولكن الشاعر علي جعفر العلاق ظل مستمرا بالتجريب والمحاولة على تطويع هذه البحور ومنها (البسيط،والسريع،والخفيف)خاصة.فنظم على البحور المركبة عددا من القصائد فاق غيره من الشعراء.فشكل هذا ظاهرة في تجربته الشعرية التي تابعها الباحث منذ منتصف السبعينيات.
  • إمتازت قصائد العلاق المنظومة على هذه البحور بتمتعها بحرية مشروطة ومبدعة،إذ أنها تخلصت من وحدة البيت القديم،ثم تخلصت من وحدة التفعيلة والسطر.ولكنها اختارت العبارة وهي تدور في فلك بحر مركب،لهذا كانت العبارات تولد في مكانها من غير تكلف وبلا غصب وإكراه،أي بلا إرضاء لقيود النظم كما يفعل النظّامون وتجاوزها المبدعون مثل علي جعفر العلاق.
  • توافر الوزن في هذه القصائد.ولكنه وزن يتضافر مع العبارة ويذوب فيها،فهو ليس ناتئا بارزا ولا ملغيا مستغنى عنه،ولهذا استغنت الدراسة عن تداول مصطلحي الايقاع الخارجي والداخلي،لأن هذه القصائد ألغت هذا التقسيم وأوجدت التضافر بين متصارعين لا يهدآن،وهما الوزن والعبارة.
  • على الرغم من قلة عدد البحور المركبة التي نظمت عليها قصائد العلاق،فإنها أثبتت أن أشكال الأداء الفني لا تتوقف مطلقا،لأنها غير محدودة،وأن البحور المركبة تأخذ ميزاتها من لغة كريمة بنيت على الاتساع والاشتقاق،وأن النظام العروضي للشعر العربي يتمتع بمثل ما تتمتع به هذه اللغة، فهو ولد منها ويتمتع بجمالياتها وتراكيبها وخصائصها الصوتية.
  • حقق الشاعر العلاق بهذه القصائد طموح كثير من الشعراء الذين ظلت تراودهم البحور المركبة وتغريهم بالمجازفة،كما رأى ذلك يوسف الصائغ.
  • وجدت الدراسة أن فضاء البحر المركب أوسع من فضاء البحور الصافية المبنية على تشابه التفعيلة ،والتي غالبا ما تصاب القصيدة الحديثة بسببها بالرتابة إلاّ ما ندر،وأن هذه القصائد قد تخلصت من شبح الرتابة الذي يندلع بسبب التدفقية التي اعتبرتها نازك الملائكة من مضللات الشعر الحر.
  • التزمت الدراسة بما اتبعته الدراسات المماثلة،فتم بحث عناصر الرذم مثل:التكرار،والتدوير،والتضمين.وانفردت الدراسة باقتراح مصطلح(التضفير) الذي يجمع التدوير والتضمين في تضافرهما مع العبارة لإنجاز شعريتها.
  • حددت الدراسة ظاهرة البحور المركبة في شعر العلاق ليس على أساس الشيوع كما هو متبع في تحديد الظواهر،بل على سبيل الندرة.إذ أن الظاهرة لا يمكن تحديدها بحسب الكم فقط.ولكن بحسب الأهمية والفاعلية،فتفاحة واحدة كانت كافية لاكتشاف نظرية مهمة.وقصائد العلاق موضوعة البحث اختطت لها سبيلا خاصا وحلقت خارج الأسراب الشعرية الكثيرة،بل هي تنفصل فنيا عن القصائد الأخرى للشاعر نفسه المنظومة على نمط الشعر الحر ذي التفعيلة الواحدة.ولكنها تحمل هويتها الأم،إذ أنها تشير الى ينابيع انطلاقتها،حيث اللغة العربية الثرية بالجمال والانجازات الأدبية الراقية،فهي تتمتع بالأصالة وتتفاعل مع معطيات لغتها العربية،وتكشف عن حقول إبداعية لا متناهية.
  • نبهت هذه القصائد الى أن الحدود ليست حدود الوزن أو البيت،بل هي حدود العبارة عندما تضم تحت أجنحتها كل ما تحمله اللغة من ثمار و(تعْدِلُ) بها إبداعيا لتحقق انحرافا أو خرقا أو انتهاكا أو انزياحا يجعل اللغة تولد من جديد وتعيد تأسيس غاباتها ومواسمها لتحصل على نشاط إبداعي حر.
  • تمت دراسة شعرية البحور المستخدمة في هذه القصائد،وخصص بحث لكل بحر،حيث تم تغيير الموقع المتعارف عليه في مثل هذه الدراسات التي كانت تميل مع العروض في تحسس العبارة،إذ ارتأت الدراسة أن تنظر الى العروض (الوزن) وهو في العبارة يعمل في آن واحد مع عناصرها الأخرى لتفجير شعريتها،لا كما كان يتم بحقه من تحييد وعزل وعدّه خارجيا أو مفروضا من خارج.
  • نظرت الدراسة الى الجملة بعدّها تركيبا يخص النحو،و تشكيلا يخص العروض،وعبارة تخص الشعر،إذ أنها تحصل على ترقية تجيئ بها من الجملة الى التشكيل حتى تصبح (عبارة).ولهذا لم تتداول الدراسة مصطلح الجملة الشعرية،لأن الجملة لا شعرية فيها،فقد اشترط النحويون الفائدة وهي يمكنها أن تؤدي وظيفتها النحوية حتى لو لم تكن (مفيدة) فهي أدنى مستوى من العبارة،فهذه تحمل التعبير والدلالة والمعنى والايحاء ولا يمكن مساواتها بالجملة.
  • وجدت الدراسة أن بعض المسلمات المتداولة منقولة أو متخيلة،مثل المسافات الزمنية المتساوية بين التفعيلات،فهذا فهم موسيقي بحت ويخص الإيقاع الموسيقي تحديدا،بينما في الشعر تفرض العبارة وجودها،وهي غير متساوية،إذ العبارات ليست قياسا ثابتا.ووجدت الدراسة أن التفعيلات لا يمكن أن تتساوى إلاّ في المنظار التعليمي،فهي في القصيدة تتباين من حيث تركيبها الصوتي المكون من المقاطع القصيرة والطويلة،المنفتحة والمنغلقة، واختلاف الصوامت والصوائت،وتحول الصوائت القصيرة الى صوائت طويلة،وتغير حركة الحرف المكون للتفعيلة.
  • وفي ما يخص القافية ،فقد تابعت الدراسة هذا العنصر المهم في الشعر العربي بكل أطواره وأدواره،ووجدت أن القافية في هذه القصائد تأتي بلا توقع أو بأدنى قدر منه،وأنها غير مغصوبة أو مكرهة،بل تأتي كالوليد المنتظر،وهي قليلة العدد،إذ لا تتتعدى أربع قواف في بعض القصائد.وإنها تدخل عضويا في جسد القصيدة طالما أن الشاعر غير مجبر على الاتيان بها،إلاّ لضرورة إبداعية.
  • وعلى ضوء ما مرّ فإن الدراسة تقترح أن يرافق الدراسات التي تهتم بالعروض والرذم ما يدعمها صوتيا،وأن تسجل النماذج الشعرية المدروسة نثرا أو شعرا،لكي يتحقق المرجو من الخطاب الشعري الذي يسعى الى التواصل صوتيا أو أن طموح كل منجز شعري أن يتحول الى صوت،وبما أن الامكانيات متاحة وسهلة التنفيذ تقنيا فيعد هذا مطلبا متمما لبناء مثل هذه الدراسات. وقد حفلت شبكة الانترنيت بشتى الأنواع من التسجيلات الصوتية،والشعرية منها خاصة.
  • بعد اطلاع الباحث على عدد لا بأس به من الدراسات،وجد أن البحور المركبة وهي عافية الشعر العربي ،قد أهملت قصائدها المنظومة عليها في الشعر الحر،بسبب عدم صلاحيتها له كما حكمت عليها نازك الملائكة وقبلها علي أحمد باكثير،مما حدا ببعض الدارسين الى تجاهلها،الأمر الذي يدل على أن هذه القصائد وقعت طائلة القراءة السياقية،غير المتفحصة،بسبب تغييب الصوت (في القراءة خاصة) وهذا مردّه الى أن الدراسات،حتى الأولية منها،لا تعزو للصوت أهمية كبيرة،فتتم دراسة اللغة وآدابها بصريا ،من الورق الى الورق،وعليه تقترح الدراسة أن يخصص وقت للسماع الحر،يتولى ذلك أساتذة،أو شعراء،أو على الأقل يتم هذا من خلال تدريب الطالب على إلقاء النصوص برغبته وطواعيته،والاستعانة بما ينجزه المسرحيون في تدريباتهم ودراساتهم للغة المسرح،التي بها ينتجون النصوص ويحررونها من ورقها ويحولونها الى أفعال درامية وشخصيات ذات لحم ودم ومشاعر،وتصبح اللغة طليقتة على ألسنتهم،وكليات التربية أولى بهذا،فهي تسعى الى تخريج مدرسين للغة العربية،عليهم تحبيبها وجذب ذائقة الآخرين اليها.