هناء عبد الحسين جاسم النصراوي

 

مقدمــــة

إتسع ميدان التعامل بين الأشخاص عبر الحدود، بفضل تقدم علوم الإتصالات والتكنولوجيا وما رافقه من زيادة وتشعب في حاجات العنصر البشري، فقامت مختلف المراكز والعلاقات القانونية بصبغتها الدولية والمنصب موضوعها على أموال عقارية أو منقولة، هذه الأموال عدّت عصب الحياة الداخلية (الوطنية) والدولية للأشخاص، والتي قال فيها سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا…)([1])، مع أهمية المال مست الحاجة إلى إيجاد التنظيم القانوني للحياة الخاصة الدولية، فلو أنَّ شخصاً إنكليزياً إشترى من فرنسي عقاراً يملكه في جمهورية العراق، أو أنَّ عراقياً يملك أموالاً منقولة وغير منقولة في إنكلترا وهو متوطن فيها، وهذا العراقي قد توفي عن ورثة عراقيين وإنكليز، في هذه الامثلة ما هو الضابط الإسنادي الذي يرتكز عليه في تحديد القانون الواجب التطبيق لمسألة إنتقال أو إكتساب ملكية العقار الكائن في إنكلترا، أو العراق؟ وما يتطلبه من تقديم حلول لما يثار من مسائل تنازع القوانين ذات صلة بهذه الأموال، بشأنه عوّل على الضابط الإسنادي الذي معه تتحقق الصلة والإرتباط مع موضوع المركز، أو العلاقة القانونية والمتجسدة في عنصر المال، هذا الضابط الإسنادي يتمثل في ضابط موقع المال ومبلوراً لأهمية المال للحياة الخاصة الدولية، إذ معه يكون قانون موقع المال القانون الأوثق صلة بالرابطة أو العلاقة القانونية، ليجسد الموقف الغالب لمختلف الصياغات التشريعية لدول العالم المختلفة العربية منها والأجنبية.

إنَّ مدى شيوع وسلطان ضابط موقع المال في تحديد القانون الواجب التطبيق للوقائع والتصرفات القانونية ذات الصلة بنظام الأموال، وبصفتها الدولية إرتبط وبشكل وثيق بأهم سمة من سمات القانون الدولي الخاص وعلى وجه الخصوص في فرعه المتجسد في (تنازع القوانين) ألا وهي سمة التطور والتغيير، بناءاً عليه تقوقعت الفاعلية الدولية لضابط موقع المال بسبب التبدل في بعض مفاهيم المسائل المندرجة في الفكرة المسندة لطائفة نظام الأموال التي إرتكز فيها على ضابط موقع المال، فضلاً من تغيير تقسيمات الأموال بظهور أنواع جديدة منها، كل ذلك حدث بفضل ما شهدته الحياة الدولية المعاصرة من متغيرات إقتصادية إستلزمت إجراء متغيرات قانونية، إذ تغيرت مفاهيم الملكية والحقوق العينية المترتبة عند التعامل مع الأموال.

إنَّ التضييق في دور ضابط موقع المال لتعيين القانون المختص بالتطبيق لم يؤدِ إلى انحسار الفاعلية الدولية للضابط الإسنادي المذكور وبصورة نهائية، بل لازال يتمتع بأهميته لبعض المسائل المندرجة في طائفة نظام الأموال، هذه المخالطات كانت مثاراً للباحثة في الخوض في بحث موضوع: موقع المال وأثره في إختيار القانون الواجب التطبيـق (دراسة مقارنة) وفقاً لما هو آت:

أولاً / تحديد موضوع البحث ونطاقه :

نتناول بالبحث موضوع موقع المال وأثره في إختيار القانون الواجب التطبيق (دراسة مقارنة) وقد ركزنا البحث في تنازع القوانين وعلى الوجه الأغلب في ضوء صلته بالمركز القانوني للأجنبي. متطرقين فيه إلى:

1-      موقع المال كضابط إسناد وأداة الإهتداء والإرشاد الى القانون الواجب التطبيق (قانون موقع المال) بشأن نظام الأموال، كالعقارات والمنقولات وما يترتب من (مسائل ملكية، حقوق عينية أصلية وتبعية، حيازة، طرق إكتسابها، إنتقالها، إنقضائها..)، وبضمنها العقود المتعلقة بالعقارات، لذلك كان من مقتضيات موضوع البحث التطرق الى قانون موقع المال بالتعويل على ضابط موقع المال، ليكون من أهم آثاره.                      

2-      دور ضابط موقع المال بشأن تحديد وصف المال بوصفه عقاراً أو منقولاً إستثناءاً على القاعدة الأصل في التكييف (قانون القاضي)، آخذين بنظر الإعتبار أهم الإتجاهات الحديثة في التكييف بتطويعها في دور ضابط الموقع في هذا المجال.

3-      دور ضابط موقع المال في مسائل الأحوال العينية والمتمخضة في مجال الأحوال الشخصية (الميراث، الوصية، النظام المالي للزوجين).

4-      ضابط موقع المال في الحقوق، أو الجوانب المادية للأموال المعنوية.

5-      نبحث في الإتجاهات الحديثة للحياة الدولية المعاصرة التي إتسمت ببزوغ نظام إقتصادي دولي جديد إزاء الإرتكاز على ضابط موقع المال لتحديد القانون الواجب التطبيق للمسائل المندرجة أو الملحقة بطائفة نظام الأموال، التي إستلزمت التعويل على ضوابط وقواعد جديدة للتنظيم الدولي لنظام الأموال وما يقوم بمناسبتها من مسائل تنازع قوانين.

 

ثانياً / أسباب إختيار موضوع البحث :

1-      أهمية موقع المال كضابط إسناد في تحديد القانون الواجب التطبيق في نظام الأموال (الأموال المنقولة وغير المنقولة) وما طرأ إزاء تبنيه من تطورات دولية.

2-      الدور المعقد والشائك لضابط موقع المال في تعيين القانـون المختص بالتطبيق لبعض الفكر المسندة في نظام الأموال، فهو لازال يتمتع بفاعلية دولية على الرغم من تضيق نطاق إعماله بفضل ما طرحته الحياة الدولية المعاصرة من إتجاهات حديثة.

 

ثالثاً / مشكلة البحث :

1-     في تحديد موقع المال، أنَّ هذه المشكلة تتبلور من جهتين: جهة تتمثل في صعوبة الوقوف على التركيز المادي الواقعي لمكان وجود المال المنقـول وبشأنه يصار إلى التركيز المجازي الحكمي لضابط موقع المال، ومن جهة ثانية أنَّ مشكلة تحديد الموقع تقوم مع وجود تركيز مادي وفعلي لمكان وجود المنقول، ولكن على نحو تتعدد فيه مواقع وجوده ليشكل ما يسمى بمشكلة (التنازع المتغير)، فهناك موقع أصلي (قديم) للمال المنقول، وهناك موقع جديد فإلى أيّ من الموقعين يتم الإرتكاز في تحديد القانون الواجب التطبيق لما يثار من مسائل تنازع للوقائع والعلاقات القانونية بصبغتها الدولية، التي موضوعها مالاً منقولاً ؟ ذلك ما يتم تناوله بالبحث في المباحث المتقدمة.

2-      في التعويل على ضابط موقع المال لأغراض تحديد القانون الواجب التطبيق بشأن تحديد طبيعة المال فيما إذا كان (منقول أو غير منقول)، كمرحلة سابقة وأولية في تعيين القانون المختص بالتطبيق. هذا النهج الإسنادي الجامد بات تقليدياً لا يخدم الحياة الدولية المعاصرة وما طرحته من مفاهيم عالمية جديدة للمال، فضلاً من ظهور نظريات متطورة في مجال التكييف تشجع على العزوف من الإرتكاز على الإسناد الجامد المسبق لضابط الموقع وتسعف في التخفيف من التزمت تجاه ضابط موقع المال في تحديد طبيعة المال للتوصل إلى مفهوم مطلق وعالمي للمال وبإعتماد نظرية القانون المقارن.

3-      ضابط موقع المال وعلى الرغم مما شكله الإرتكاز عليه من قاعدة تنازع عالمية إجماعية بشأن تحديد القانون الواجب التطبيق للمسائل المندرحة في طائفة نظام الأموال ولحقبة زمنية طويلة، إذ أصابه الهون والتراجع لبعض المسائل المندرجة في الطائفة المذكورة بفضل المتغيرات الإقتصادية التي شهدتها الحياة الدولية المعاصرة، وما عكسته من حقائق ومفاهيم دولية جديدة وتصرفات قانونية إنمازت بخصوصيتها وذاتيتها عما هو مألوف من تعامل دولي ذات صلة بنظام الأموال. إذ أصبحت قاعدة الإسناد الخاصة بنظام الأموال المعول فيها على ضابط موقع المال، وما تقدمه من حلول لمسائل التنازع في نظام الأموال غير ملائمة للحقائق الدولية المعاصرة، غير ملبية لمتطلبات التجارة الدولية التي تقضي السرعة في حسم مسائل التنازع، فضلاً لما ينطوي عليه الإسناد الجامد التقليدي لضابط موقع المال من آلية ميكانيكية في تحديد القانون الواجب التطبيق إذ معها لا يمكن الوقوف، أو التعرف المسبق إلى القانون الواجب التطبيق لمسائل التنازع المتعلقة بنظام الأموال وهو ما لا يرتضيه الأشخاص الخاصة الأجنبية التي هي غالباً ما تكون في مراكز قانونية لا تقل عن مركز الطرف المقابل بحساب أنَّ الآلية الجامدة والمسبقة لضابط موقع المال لا تخدم مصالحها وأهدافها، وهي بالوقت ذاته تضر الطرف المقابل للطرف الخاص الأجنبي لأنَّ الإصرار على إعتمادها يؤدي إلى عزوف الأشخاص الخاصة الأجنبية من إبرام التصرفات القانونية بصبغتها الدولية ومن ثم الإضرار بالمجتمع البشري للطرف المقابل للطرف الأجنبي، إذ يكون لزاماً التخلي عن الإرتكاز على ضابط موقع المال وفقاً للنهج الإسنادي المسبق والجامد بالتعويل إلى منهج الإسناد المرن وبما يخدم وينسجم مع متطلبات التجارة الدولية.

 

رابعاً / أهداف البحث :

1-      بلورة أهم مبادئ موقع المال كضابط إسناد في إختيارالقانون الواجب التطبيق، للإستزادة منها في مجال قواعد تنازع القوانين مع إستيعابها في ضوء ما طرحته الحياة الدولية المعاصرة من إتجاهات حديثة.

2-      إعانة القضاء العراقي بوضع هذا الجهد المتواضع بين يديه وإطلاعه بأهم الأحكام القضائية العربية والأجنبية، فضلاً من بيان موقف التشريعات، والإتفاقيات الدولية للإستئناس بها عند تعرضه لنزاع مشوب بعنصر أجنبي في مجال نظام الأموال سيما مع المتغيرات الإقتصادية والقانونية الدولية المعاصرة.

3-      دعوة المشرع العراقي وإعانته بإعادة النظر بالنهج الإسنادي الجامد المسبق الذي تضمنته قاعدة الإسناد الخاصة بنظام الأموال، أو تلك الخاصة بالعقود المتعلقة بالعقارات والتي إرتكز فيها على ضابط موقع المال في تحديد القانون المختص بالتطبيق، ودعوته إلى تبني منهج الإسناد المرن بما فيها قواعد قانون التجارة الدولية، من خلال تقديم مقترح مشروع قانون مختص بالعلاقات الخاصة الدولية يسمى “القانون الدولي الخاص العراقي” بدلاً من ترك قواعد التنازع متناثرة بين القوانين الخاصة مع إطلاعه على أحدث الإصلاحات التي تشهدها قوانين الدول المتقدمة للبلاد اللاتينية والإنكلو أمريكية…الخ.

خامساً / الصعوبات التي واجهت الباحثة :

إنَّ صعوبات عدّة واجهت الباحثة في مقدمتها تلك التي تعزى إلى ندرة المصادر الحديثة المتعلقة بموضوع البحث، مع الإقتصار على توافر القديمة منها، فضلاً من قلة القرارات القضائية العراقية التي يعول فيها إلى ضابط موقع المال، إذ تم الإستعانة بالقرارات القضائية العربية والأجنبية سداً للنقص. كما إنَّ صعوبات أخرى واجهت الباحثة مردها عدم دقة الترجمة، وهذه مسألة مؤثرة لكل من يعزم على البحث في أي موضوع من مواضيع القانون الدولي الخاص، سيما تنازع القوانين.

 

سادساً / منهجية البحث :

إعتمدنا في البحث إسلوب الإستقراء والتحليل والمقارنة مع الأنظمة القانونية العربية واللاتينية والإنكلوأمريكية, المعززة بالتطبيقات القضائيـة وإجتهاد الفقه التقليدي والحديـث، فضلاً من بيان الآراء والمقترحات إزاء ما يعرض من معوقات ومشاكل التي تسعف في التخفيف من أزمة التشدد في الإرتكاز على ضابط موقع المال، وبمراعاة أسس ومضامين الإتجاهات الحديثة.

 

سابعاً / خطة البحث :

تناولنا موضوع البحث في مقدمة، فصل تمهيدي وبابين. الفصل التمهيدي خصصناه لمفهوم موقع المال وآليات تطبيقه، أما الباب الاول تعرضنا فيه لدور ضابط موقع المال في نظام الأموال، وفي فصلين الفصل الأول خصصناه الى دور ضابط موقع المال في الأموال العقارية، الفصل الثاني بحثنا فيه دور ضابط موقع المال في الأموال المنقولة، أما الباب الثاني تطرقنا فيه الى أهم الإتجاهات الحديثة في مقابلة تبني ضابط موقع المال وبفصلين الفصل الأول تأملنا فيه مضمون الإتجاهات الحديثة، وأثرها في إختيار القانون الواجب التطبيق إزاء نظام الأموال، أما الفصل الثاني سردنا فيه تطبيقات الإتجاهات الحديثة في مقابلة تبني ضابط موقع المال (في نطاق الحقوق والآثار العينية وحقوق الإستغلال، وفي مجال الأموال العقارية والمنقولة المادية والمعنوية)، ومن ثم خاتمة (إستنتاجات، توصيات).


([1]) سورة الكهف، الآية 46.