((بسم الله الرحمن الرحيم))
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير من تكلم بلغة الضاد أبي القاسم محمد وعلى آله الطَّيّبين الطَّاهرين وصحبه المنتجبين.
أما بعد:
فإنَّ الجهد العربي في مجال المعجمات بأنواعها يستحق الثناء والتقدير إذ لم تنتج أمَّة من الأمم مثل ما جادت به قرائحهم جمعًا وترتيبًا وتبويبًا ومنهجًا وهو ما أغرى الدارسين بالبحث والتنقيب فيه للوقوف على مكامن قوّته ومظاهر عظمته؛ لأنّ ما تركه لنا علماؤنا من إرثٍ لغوي صنَّفوه عبر قرون متطاولة يمدنا بمعين لا ينضب من العنوانات المبثوثة في بطون الكتب في محاولةٍ لتحليل المناهج أو لتقويم الجهد أو لاستدراك ما فات حفاظا على هذا الإرث العظيم .
من هنا كانت فكرة هذه الدراسة ((معجم ألفاظ الداء والدواء عند اللغويين حتى نهاية القرن الثالث الهجري)), التي أحسب أنَّها دراسةٌ مكمّلة لجهد أولئك السلف الكريم, ولعلَّ ما حدانا على ذلك أنّنا وجدناها بكرًا في ميدانها إذ لم تتَلَقَّفها الأيدي من قبل.
ولما كنت طالب بحث في الخطوات الأولى استفتيت أساتذتي في الخوض في غِمار هذا الموضوع فكان أن وقع منهم موقع الرضا والقبول, فشرعتُ في تفحّص المظانِّ التي ينبغي للدراسة الإفادة منها فكانت المعجمات العربية في المقام الأول, لأنَّها تُمثّل الرافد الأساس في اللغة ولاسيما المعجمات التي ذاع صيتها, في الآفاق, نحو معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي(ت175ه),ولسان العرب لابن منظور(ت711ه) وغيرهما من المظان التي يمكن أن تمد الباحث بالمادة اللغوية مثل معجمات المعاني ومنها كتب خلق الإنسان, نحو كتاب خلق الإنسان للأصمعي(ت213ه),وكتاب خلق الإنسان لثابت (ت250ه), وكتاب خلق الإنسان للزجّاج(ت311ه) وغيرها, فضلا عن ما يمكن أن تجود به دواوين الشعراء حتى نهاية القرن الثالث, وكتب معاني القرآن والأمثال وغيرها من أُمات الكتب التي خلفها لنا فطاحل العلماء من أهل اللغة, إذ ضمَّت هذه المؤلفات بين دفتيها مادة خصبة أفرغ مؤلفوها فيها ألواناً من مباحث اللغة والأدب والفكر والتاريخ, فضلاً عن ما يدور في فُلك الموضوع مظنة البحث,إذ رصدوا ألفاظ الداء والدواء ,وعمدوا إلى شرحها وبسطها ,وتعيين مواطنها وسُبل علاج هذا الداء أو ذاك إلّا أنّها كانت مادة مبثوثةً في كتبهم متفرقةً بين موادها غير مجموعةٍ في باب واحد وهو ما مثَّل محور هذه الدراسة وغايتها .
وتكمن أهمية هذه الدراسة في المدة الزمنية التي تمتد ضمنها الدراسة إذ تعد هذه الحقبة من الزمن مرحلة مهمة في تاريخ المؤلفات اللغوية ولاسيما المعجمات التي كانت نتاجاً لعقول كوكبةٍ من علماء اللغة البارزين وهو ما تمثَّل بما تصيَّده الرعيل الأوَّل من أرباب اللغة.
مثَّلَت هذه الدراسة محاولةً جادة لاستكمال جهد العلماء العرب في مجال البحث المعجمي فضلاً عن ما تقدمه من مادة علمية يُفيد منها أصحاب الاختصاص العلمي الدقيق وفضلًا على ما يمكن أن تقدمه من مادة لغوية جاهزة للمبدعين شعراء وناثرين ونقّادا,وباحثين.
وأمّا الصعوبات والعقبات التي واجهها الباحث فإنَّ ممّا لا شكّ فيه أنّ كلَّ جهدٍ تعترضُهُ مجموعةٌ من العقبات والمشكلات التي تقُف حائلاً دونَ اكتماله، ومنها:
1- اتساع المساحة الزمنية التي غطتها الدراسة إذ امتدت لقرون طوال فضلاً على ما اشتملت عليه معجماتها من مادة علمية يتطلب التقاطها جهداً مضنيا .
2- التباين النوعي في روافد البحث إذ شمل البحث دراسة المعجمات بكل أنواعها ودواوين الشعراء وكتب اللغة وكتب الامثال وغيرها لتداخل المادة العلمية وانتشار ألفاظ الداء والدواء في كتب عدد وافر من فروع العلوم المختلفة .
3- وحشة الطريق الذي نسلكه لقلة مثل هذه الدراسات ومن ثم لم يكن المنهج الواجب اتباعه واضحا ولا الخطوات الواجب اتباعها مسبوقةً إلا أنَّنا لا ندعي أنَّ غيرنا لم يكتب في هذا المجال فقد سبقنا بعضهم وان كانت دراسته مقيدة بحدود ضيقة مثل (ألفاظ الأمراض في القاموس المحيط دراسة دلالية) إذ افدنا منها في مجال خطة البحث .
ومن المناسب لنا هنا أن نحدّد المساحة التي ستعمل عليها الدراسة لما قد يعتريها من شمول فقد سعت الدراسة إلى تحديد وجهتها بدراسة ألفاظ الداء والدواء الخاصة بالإنسان وكذلك الألفاظ المشركة بينه وبين الحيوان في حين نأت بنفسها عن ألفاظ الداء للمخلوقات الأخرى التي يمكن أن يصيبها الداء نحو الحيوان والنبات فضلا عن تحديد وجهتها نحو دراسة ألفاظ الداء والدواء المادية وذلك بتحديد الداء بكل ما يمكن أن يعد مادياً في الجسم سواء أكان بأثر خارجي مادي كالضرب ونحوه أم بأثر مرضٍ أم بعاهات ولادية أفضت إلى عيبٍ في جسم الإنسان.
فقد توزَّعت المباحث العلمية التي تصيّدها الباحث في مظانٍ لغوية كثيرة, إذ كانت شذرات متفرقة هنا وهناك, استطاع الباحث أن يُلَملِم شتاتها فحاول جاهداً رصدها وتنسيقها , ولأجل ذلك عمد جاهداً إلى اقتطاف وجني هذه الألفاظ وجمعها ، منتهجاً في جمعها وترتيب أصولها ترتيباً معجميا وتقسيمها بمقتضى خطة علمية اندرج تحتها أربعة فصول يسبقها تمهيد ويتلوها خاتمة على النحو الآتي:
أمّا التمهيد فقد تضمن نظرة تاريخية لنشأة المعجمات العربية وأهميتها وذكر أنواعها وأبرز روّادها.
في حين جاء الفصل الأوَّل بعنوان: (ألفاظ الداء الخاص بالرأس) واندرج تحته سبعة مباحث, إذ اختص الأوَّل
” بألفاظ الداء الذي يصيب الشَّعَر“ في حين اختص الثاني بشجاج الرأس, واختص الثالث بالدماغ, والرابع بالعين, والخامس بالأنف, والسادس بالأُذن, والسابع بالحلق.
وجاء الفصل الثاني بعنوان:( ألفاظ الداء الذي يصيب الجذع), وتألف من أربعة مباحث, إذ تناول الأول منها
“ألفاظ الداء الذي يصيب العنق “ في حين اختص الثاني بألفاظ المنكب والكتف, والثالث بألفاظ الجوف, والرابع بألفاظ الظّهر.
وجاء الفصل الثالث بعنوان : ( ألفاظ الداء الذي يصيب الأطراف العليا والسفلى), وتكوَّن من ثلاثة مباحث:
اختص الأول منها: “ بألفاظ الداء الذي يصيب الأطراف العليا وما يتصل بها “, في حين تناول الثاني ألفاظ الأطراف السفلى وما يتصل بها, وضمَّ الثالث ألفاظ الأطراف العليا والسفلى.
في حين انفرد الفصل الرابع بعنوان: (ألفاظ الدواء), واندرج تحته ستة مباحث, اختص الأول منها:“ألفاظ الدواء المتعلقة بأدواء الرأس وما يلحق به“, وضمَّ الثاني ألفاظ الدواء المتعلقة بأدواء الجذع وما يلحق به, والثالث ألفاظ الأطراف وما يلحق بها, والرابع ألفاظ الدواء المتعلقة بالجروح, والخامس ألفاظ الدواء العامة غير المتعلقة بأدواء محددة, في حين تضمن المبحث السادس والأخير ألفاظ الدواء المتعلقة بالتمائم والرقيّ والعُوذ.
وبعد ذلك فقد أفضت الدراسة إلى مجموعة من النتائج المهمة التي كانت الخاتمة موضعاً لها.
وفي الختام لا يسعني إلاّ أن أتقدم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لكل من ساعدني في إنجاز هذا البحث، وأخص بالشكر الأستاذ المساعد الدكتور مكي محيّ عيدان الكلابي الذي تشرفت بإشرافه على هذه الرسالة، إذ كان خير موجه لي و خير مشرف عليها، ومن ثمّ أفاض على هذا البحث من غزير علمه، وعظيم خلقه، والأستاذ الدكتور هادي عطية مطر الهلالي الذي اقترح علَيَّ الموضوع وأثرى البحث بملاحظاته السديدة وأولاه كل الرعاية والاهتمام، وكان له دور كبير في دعمي وإرشادي فضلا على ما كان لأساتذتي في قسم اللغة العربية من فضل التوجيه والدعم والنصح والمشورة التي لولاها ما كان للبحث أن يكون على ما هو عليه الآن .
وأرجو أن أكون قد وفقت في دراسة هذا الموضوع ومناقشته وتوضيح أهميته وما فيه من تفرعات وعلاقات لغوية أخرى، فإنَّ وفقت في ذلك فتلك الغاية، وهبة الله لي من التوفيق السداد، وإن كانت الأخرى فمن تقصيري ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وحسبي أني بذلت غاية جهدي، وأخذت بأسباب الدقة والموضوعية والمنهجية العلمية ما استطعت.
والحمد لله ربِّ العالمين