المستخلص
يقل مقدار الاهتمام الذي أُولي لأدب المرأة عن ذاك الذي احتضن أدب الرجل، احتفى وبشّر به، وليس تاريخ الأدب العربي بدعا من تاريخ آداب الإنسانية بعامة، فمقابل الكم الكبير من الكتب النقدية التي حفظت أدب الرجل، لم تصل إلينا سوى آثار قليلة، وأحيانا مبتورة حفظتها كتب قليلة تخصصت بأدب المرأة، مثل(بلاغات النساء) (لابن طيفور)، و(أشعار النساء) (للمرزباني)، و(أشعار الجواري) (للمفجعي)، إلى جانب الصفحات القليلة من الكتب العامة، فضاع أكثر أدب المرأة، إذ نُظر إليه على أنّه أقل أهمية، أو درجة ثانية بحسب المعيار النقدي السائد الذي كان يقوم على الفحولة بحواملها: الذكورة، والقوة، والسلطة.
وحتى لا يتكرر الأمر في راهننا المعيش جاء الاهتمام بأدب المرأة على أيدي النساء أنفسهن، فكشفن عن القارة المفقودة كما تسميها ايلين شوالتر، وعلى الساحة العربية جاء الالتفات لأدب المرأة منذ بدايات النهضة العربية -ولاسيما نهايات القرن التاسع عشر- على يد زينب فواز العاملي التي ألّفت أول كتاب في تراجم النساء، ثم شكّل ظاهرة تنامت بعد الستينيات ليحاول استدراك الإهمال الذي تسيّد طويلا، لكنّ رفوف المكتبة العربية ما تزال فقيرة إلى دراسات تشبع هذا الأدب بحثا وتحليلا.
في وقت مبكر من حياتي العلمية أثارت الدراسات حول المرأة اجتماعيا، وأدبيا، وانطولوجيا اهتمامي، وكان اطلاعي على فكر سيمون دي بوفوار حافزا على توجيه اختياري للنقد النسوي موضوعا لرسالة الماجستير، يعضده تسليم بجاذبية يملكها الأدب السردي ولاسيما الروائي منه، لكونه يخلق عالما موازيا لعالمنا، له القدرة على تمثيله من دون التطابق معه، فضلا عن ما يتفق عليه أكثر من باحث من كون عصرنا هو عصر الرواية لا الشعر، فكان اختيار موضوع الرواية النسوية في ضوء النقد النسوي هو ملتقى التوجهين اللذين تكونا عندي.
وبعد بحث وقراءة أوليين وتشاور مع الأستاذين المشرفين تشكّل لدي اعتقاد نقدي بكون عقد التسعينيات هو عقد الرواية النسوية، من حيث كثرة النتاج ونوعه، فارتأينا تحديد المدة التي تشتغل عليها الدراسة بعقد التسعينيات موصولا بالسنوات التالية له في القرن الجديد، لوثاقة الصلة بينهما.
إنّ رواية المرأة قد نضجت في هذه المدة المحددة، والرؤية قد اتضحت، فتخلّت عن الانفعالية التي رافقت بداياتها، كما أنّ هذه المدة تتيح لنا دراسة أكثر من جيل أدبي من الكاتبات، فتشمل الأعمال الأخيرة لجيل الريادة وما بعد الريادة، كما تشمل الأجيال التالية التي بدأت تجربتها في التسعينيات وبداية الألفية الثانية، وشكّلت سعة ميدان البحث زمانيا ومكانيا صعوبة في الانتقاء من بين النتاج الضخم للحقبة المدروسة، فخضع اختيار الروايات لمعيار التنوع والاختلاف في جيل الكاتبة وجنسيتها، إلى جانب التنوع في حظ الرواية من الشهرة والنقد، فبعضها نال جوائز عدة وفرض وجوده على الساحة النقدية في حين لم تأخذ روايات أخر حقها الكافي من النقد فارتأينا تسليط الضوء عليها.
وفي تمييزنا بين مصطلحي(كتابة المرأة) وهو المصطلح المحيل على جنس الكاتبة في مقابلة مع كتابة الرجل، و(الكتابة النسوية) التي تعني استبطان رؤية معينة ذات منحى سيا-أيديولوجي هادفا التغيير، ارتأينا أن يحمل العنوان مفهوم المصطلح الأول، إذ إنّ أكثر النقود قد شملت الروايات التي خطتها النساء من غير التقيد بالرؤية الكامنة فيها.
تهدف الدراسة إلى إلقاء ضوء على النتاج الروائي للمرأة العربية المعاصرة، واستشفاف رؤيتها للذات والعالم، فكان ثمة تساؤلات شكلت منطلقا لهذا البحث؛ منها:
*هل هناك خصوصية للمرأة في رؤيتها للذات والعالم؟
*كيف عبرت الرواية عن هذه الرؤية؟
*ما مدى تأثّرها بمعطيات التحديث المظهري الذي شهدته البلدان العربية في العقود القليلة الماضية؟
*ما مدى تأثّر وعيها بمعطيات الحركة النسوية العالمية بتياراتها المتنوعة، سواء منها المتطرفة في تهميش الرجل، أو المعتدلة في توجيه النقد للبطريركية بوصفها بنية قامعة أساءت للإنسانية بثنائيتها الرجل والمرأة؟
كما تهدف في الوقت نفسه إلى استجلاء كيفية معالجة النقد العربي لكتابة المرأة وكيفية تعامله معها، وهل اختط النقد النسوي العربي لنفسه منهجا خاصا به؟ أو إنّه ما يزال أسير الأحكام الانطباعية؟ أو التبعية لمقولات النقد الغربي؟
لا تدعي هذه الدراسة لنفسها الريادة، إذ إنّ كتابة المرأة موضوع سبق تناوله في رسائل جامعية داخل القطر وخارجه، أفدنا من بعضها، وإن كانت قليلة، نذكر منها: الرواية النسوية في الأدب العراقي1991م-2001م– دراسة في البنية السردية(رسالة ماجستير)، خالدة حسن خضر النعيمـي، كلية التربية، جامعة بغداد، 2006، وروايات حنان الشيخ- دراسة في الخطاب الروائي(أطروحة دكتوراه)، بشرى ياسين محمد، كلية الآداب، الجامعة المستنصرية، 2008، والجدة النسبية للموضوع كانت صعوبة أخرى واجهت البحث لا من جهة الحصول على المصادر، بل من جهة التقسيم الداخلي للفصول والمباحث، إذ إنّ النقد النسوي مثل غيره من النقود ذات المرتكز الفكري كالنفسي والاشتراكي، ليس منهجا قائما بذاته له آليات محددة، بل هو نشاط يرتكز على معطياته الإيديولوجية الداخلية، ويفيد من آليات المناهج الأخرى، مثل البنيوية والتفكيكية وغيرها، وبعد التشاور مع الأستاذين المشرفين، وقراءة أولية تجمعت عنها مادة لا بأس بها، ارتأينا أن تقسّم الدراسة على ثلاثة فصول رئيسة، يسبقها تمهيد عن محضن النقد النسوي ممثلا بالحركة النسوية، وتشابكات النقد النسوي مع نقود ما بعد الحداثة، مع تقديم مقاربة لإشكالية المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالنقد والأدب النسويين.
وأظهرت مادة التمهيد أهمية أن نبحث بعد ذلك في أبرز قضايا اشتغال النقد النسوي العربي على رواية المرأة العربية في المدة المدروسة، فكان ذلك موضوع الفصل الأول، الذي يدخل ضمن ما يسمى بنقد النقد، وقد وجدنا خمسة قضايا شدّد عليها أكثر من ناقد؛ هي الشخصيات، واللغة، والجسد، والقضايا العامة، وخصائص السرد النسوي، فتقسمت المباحث عليها، وانفردت نهال مهيدات بمقاربة خاصة تتعلق برؤية المرأة للآخر الغربي، فاستدعى ذلك منا أن نخصص لتلك الرؤية مبحثا هو السادس، وتناولنا في استهلال الفصل القضايا التي اشتغل عليها النقد، مما لا يدخل في المدة المدروسة مثل قضية الريادة، لكونها الأرضية التي انطلقت منها رواية المرأة العربية؛ ولأنّها تكشف عن طول هذا الخط الروائي وتحولاته، مما جعل هذا الفصل يشكل ركيزة وإضاءة لعملنا في تحليل الروايات في الفصلين التاليين المخصصين للرواية النسوية.
وشغلت مكونات السرد النسوي الفصل الثاني، وتقسمت مباحثه على المكونات الثلاثة التي حددتها الدراسات السردية: الراوي، والمروي له، والمروي، وقدمنا له بمدخل عن الدراسات السردية وتطورها.
في حين تناول الفصل الأخير أبرز الثيمات المطروحة في الرواية النسوية، وهي: كتابة التاريخ أوإعادة كتابته، ورؤية المرأة لتنويعات البطريركية العربية، والحرب في الرؤية النسوية، والاندروجينية بوصفها موضوعا أدبيا، والموضوع الأخير لم يشكل ثيمة مهيمنة في السرد النسوي، لكنّ المرأة كانت سبّاقة إلى طرح هذا الموضوع الإشكالي، فآثرنا تقديم قراءة له.
وأُشفع البحث بخاتمة تلخص أهم ما توصل إليه البحث من نتائج، وطائفة من المقترحات لدراسات مستقبلية، يتلوها مسرد بمصادر البحث ومراجعه.
تراوحت قراءتنا للروايات بين رؤية أفقية تستجوب الراويات موضوع الدراسة كلها للخروج بنتائج قد لا تكون تامة الدقة، لكن بالإمكان تعميمها، مثل دراستنا لمكونات السرد، والنتائج التي خرجنا بها، ورؤية عمودية تقارب كل رواية على حدة، فقدّمنا دراسات نقدية للروايات منفردة، مراعين اختيار الرواية التي تتوفر فيها السمة أو الثيمة المدروسة أكثر من غيرها، وقد صببنا الجهد على الروايات التي لم تنل حقها من النقد سابقا.
وإذ تمخض الجهد المتواضع عن هذه الرسالة، فإنّ العرفان بالجميل يملي علي شكرا، مهما أجزلته فإنه يقصر عن إيفاء حق أستاذيّ المشرفين، الأستاذ المساعد الدكتور قيس حمزة فالح الخفاجي، والمدرس الدكتور حسين عدنان مهدي اللذين كان لهما فضل إنضاج الأفكار التي كانت متناثرة في ذهني، وبلورتها، وتشكليها على النحو الذي انتهت إليه كما هي الآن في الرسالة، إلى جانب آرائهما في منهجية البحث وخطته، وتوفير طائفة من المصادر التي صَعُب عليّ الحصول عليها، ومتابعتهما اللغوية الدقيقة، وإرشادي إلى مواقع السقط والخطأ في العبارة، فشكرا لما أولياني من رعاية كريمة، ولما بذلاه من وقت وجهد في تشذيب بنية الرسالة وتقويم ميلانها.