المقدَّمة
الحمد لله الذي انزل قرآناً عربياً غير ذي عوج يهدي للتي هي أقوم، والصلاة والسلام على خير الخلق محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين.
أما بعد
فتعدُّ دراسة البلاغة العربية وعلومها من أشرف الدراسات، لأن مدارها القرآن الكريم، والتعريف بأسراره البلاغية، وادراك مواطن الاعجاز فيه. نبتت جذور البلاغة وتطورت مسائل البحث فيها على مرّ القرون، فبعد ان كانت إشارات مبثوثة في تضاعيف الكتب، كما هي الحال عند الجاحظ (ت255) في البيان والتبيين، والحيوان. أخذت تنحو نحوا آخر، وأصبح الاهتمام بها يأخذ شكلاً أدق مع ظهور الدراسات القرآنية وبيان اعجازه الذي لا يقارن به شيء. ثم ظهرت الدراسات المنهجية القائمة على التحليل والحكم بالجودة أو الرداءة في القرنين الرابع والخامس للهجرة وقد شارف الدرس البلاغي على الاكتمال على يد الرازي(ت606) والسكاكي(ت626) وغيرهم من علماء القرن السابع للهجرة، بعد أن ورث ذلك القرن تركة أدبية، وفكرية وعلمية عظيمة أضحت البلاغة فيه علماً له قواعدهُ وقوانينه الخاصة. وقد دأب الباحثون المعاصرون على دراسة البلاغة وعلومها، والحق يُقال، إن في تراثنا النقدي والبلاغي كنوزاً ثمينة اسهمت في إنارة طريق الباحثين وسهّلت لهم كثيراً من مسائلها وقضاياها.
غير ان تلك الدراسات ـ على جدّيتها وكثرتها ـ أبقت الفرصة سانحة أمام كل محاولة تسعى إلى معالجة روح النظرية البلاغية عند العرب وما تنطوي عليه من رؤى حول البحث في جماليات اللغة، وما تتوسل به إلى ذلك من أدوات أي النظر إلى وظيفة الدرس البلاغي الذي يهدف إلى أن يكون علماً بكيفيات التعبير التي تحقق للنص الادبي الفعالية والتأثير في المتلقي لذلك تهتمّ بطرائق أداء المعنى، ليصل الفن الادبي الى آفاق الجمال. وعلى ضوء هذهِ الحقيقة وفي حدود تلك الأهمية حَرصت هذه الرسالة على استخلاص المعايير البلاغية عند البلاغيين في القرن السابع للهجرة، بعد ان تبيّن للباحثة حاجة البحث البلاغي والنقدي الى الوقوف امامها إذ لم يسبق تناول هذا الموضوع في دراسة مستقلة تكشف عن آفاقه وتبيّن بلاغة النص الادبي ومقوماتها.
وان كانت هذهِ الرسالة قد أفادت من بعض الجهود التأليفية التي ألّمت بالبحث في أثناء القرن السابع للهجرة أهمها. كتاب (بلاغة السكاكي) للدكتور أحمد مطلوب، كتاب (المقاييس البلاغية عند الأدباء والعلماء) للدكتور حامد صالح الربيعي. اطروحة (النقد البلاغي عند العرب الى نهاية القرن السابع للهجرة) ورسالة (بناء النص عند البلاغيين في القرن السابع للهجرة) وغيرها. ولم يغب عن الباحثة في هذا المجال ذكر الصعوبات التي واجهتها في كتابة الرسالة، وهي كثرة التوجهات البلاغية في هذا القرن كالتوجه الكلامي، والادبي، والتوجه النفسي، وهذا ادّى الى سعة الموضوع وكثرة مصادره وتنوع مشاربها ومنازع اصحابها وكذلك كثرة التداخل بين المباحث البلاغية وغيرها من مباحث النحو، والاصول، والمنطق.
ومع كل هذا سار البحث في كل مراحله ليحقق أهدافاً واضحة محددة اهمها ابراز المعايير البلاغية التي دار في فلكها الدرس البلاغي وإرساء الاصول وبيان أوجه التوافق والتخالف بين ما جاء عند البلاغيين في القرون الاولى وما جاء به علماء القرن السابع للهجرة. يقوم منهج البحث على الموضوعية العلمية التي تتمثل في استخلاص المعايير ومحاكاتها عند القدماء لمعرفة مدى جدة تلك المعايير عند علماء البلاغة وقد اقتضت طبيعة الرسالة ان تكون في مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة.
أما التمهيد : فقد عالج عدداً من الامور التي تمس جوهر البحث وتمثل القاعدة التي ينطلق منها الى قضاياه، فقد بدأ بالكشف عن مفهوم المعيار، وبيان مفهومه في شتى العلوم وصولاً الى مفهومه عند البلاغيين وانتهى إلى أن مفهومه مشترك في مختلف أنواع العلوم والفنون، ثم بيّن مفهوم البلاغة عند القدماء، واخيراً وضحّ مفهومها عند البلاغيين في القرن السابع للهجرة.
أما الفصل الاول / فقد خُصص لبيان معايير علم المعاني مبتدئاً بمعايير الفصاحة، بعدها اشارت الرسالة في البدء الى ابراز دلالة كلمة (معانٍ) بوصفه مصطلحاً عند علماء البلاغة، إذ بينت وظيفته في دراسة تركيب الكلام ومراعاة مقتضى الحال.
وفي الفصل الثاني / تناولت الرسالة معايير علم البيان وقد بدأ بمدخل تابعت فيه الرسالة مفهوم البيان في التراث النقدي والبلاغي، ثم بينت المعايير التي تحدد الانماط المتاحة لصياغة المعاني، وما ينبغي ان تكون عليه من الوضوح، والدلالة على تمام المراد.
وقد عالج الفصل الثالث / معايير علم البديع. بدأ البحث برصد المسار التاريخي لمصطلح البديع حتى استقل علماً من علوم البلاغة .
بعدها ناقشت الرسالة المعايير في المحسنات المعنوية، والمعايير في المحسنات اللفظية. وأوجزت الخاتمة أبرز معالم الدراسة، وما توصل اليه البحث من نتائج ومعايير.
هذا هو موضوع الرسالة والحافز لها، وأهدافها، ومنهجها، آمُل ان تضيف هذهِ الرسالة شيئاً جديداً في مجال البحث البلاغي. فإن كنت قد أصبت فلله الفضل من قبل ومن بعد, وان كنت قد قصّرتُ فالمغفرة والصفح وحسبي أني حاولت اقصى طاقتي.
وأخيراً لا يسعني في هذا المقام إلا ان أزجي الشكر والتقدير العميق والثناء الجزيل الى استاذي الجليل الدكتور (مكي محي عيدان الكلابي) الذي أشرف على هذهِ الرسالة إذ كان لإرشاده وتوجيهه ـ بعد فضل الله ـ اليد الطولى والفضل الأكبر في إتمامها فجزاه الله عني خير الجزاء وحفظه ذخراً للعلم وطلابه.