المقدمة
بسم الله ــــ خير الأسماء ـــــ وبه نستعين، وصل اللهمّ على خير خلقه أجمعين ، محمّد ابن عبد الله ــــ صلى الله عليه وآله ـــــ الذي جَدَّدَ عبادةَ ربِّهِ بعد أن زالت أو كادت تزول، وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين، وبعد ؛
فانّ التأثير والتأثُّر بين شعوب العالم سرٌّ من أسرارِ دوامِ الحياةِ الأدبية واستمرارها، وسببٌ من أسباب الرُقِي والتقدُّم فيها، والأدب ــــ قديمه وحديثه ــــ ابنُ الحياةِ ووليدها، فتجديدُه نابعٌ منها، مأخوذٌ من تطوّرها، وتابعٌ لمسارات نهضتِها في كلِّ عصر ، وقد يتعاظم شأن هذا التأثير تبعا للطرف (المؤثِّر) الذي يهيمن بطاقته التأثيرية على الطرف (المتأثّر) فينساق الأخير نحوه ، ويغترف من معينه، لاسيما وإن كان (المؤثِّر) شخوصا تاريخية محمّلة بحمولة أيدلوجية تلقي بظلالها على البعد الأيدلوجي للأطراف المتأثّرة (الشعوب الإسلامية) كأهل البيت الكرام عليهم السلام، الذين كانوا سراجا مضيئا أنار دُجى المعمورة، فانسابت أنوارهم إلى قلوب أبناء الشعوب الإسلامية كافة ، وأشرقت مشارق الأرض ومغاربها بصفحات تاريخهم المضيء، الذي مثّل ينبوعا ثرًّا من القيم الفكرية والعقائدية، ما إن وصلت فيوضاته إلى شعوب الأمم الأخرى، حتى طفق أدباؤها ينهلون من نميره ، وينسجون بدائعهم من فضالة نوره ، فظهر ذلك التأثُّر جليّا في نتاجاتهم ، وطفح على سطح آدابهم متمثّلا بمحاور موضوعية كان توظيف الشخصيات التاريخية العقائدية من أهل البيت عليهم السلام على رأسها، فضلا عن توظيفهم للأبعاد المكانية والزمانية للمتعلقات التأريخية التي شكّلت معادلات موضوعية لحركة أهل البيت التاريخية؛ لارتباطها بهم، كواقعة كربلاء الأليمة وغيرها .
وكان التأثير الذي أصاب موضوعات الأدب محلَّ عناية الدارسين المقارنين المُحدَثِين ، فالتفتوا إليه، وأعطوه قسطًا كبيرًا من اهتمامهم الذي بدأ يتزايد منذ مطلع القرن العشرين، فنتج عن ذلك آراء مختلفة، وَوِلِّدت وجهات نظر متباينة، لفتت نظري وأنا أقلب أحدى دراساتهم، فوُلدت في نفسي رغبةٌ شديدةٌ في أن أضع يدي على تلك الجهود؛ لأساهم ــــ ولو بشيء يسير ــــ في الكشف عن ظاهرة مقارنة مهمّة لم تزل بكرا ؛ إذ لم تطأ أرضَها أقلامُ الباحثين .
فنضجت هذه الفكرة في خَلَدِي، ورحت ــــ وأنا في أزمة اختيار العنوان ـــــ أُنعم النظر فيها من كلّ جوانبها، متطلعًا إليها ــــ بشغف ــــ في أن تكون دراستي للدكتوراه، فعرضتُ الفكرةَ على أساتيذي فباركوها مشكورين وأخذوا بيدي نحو تذليل العقبات في سبيل تحقيقها، وبعد مداولاتٍ ومحاورات دارتْ بين شيوخِنَا وأساتيذِنَا في اللّجنةِ العلميـّة ـــ أدامهم الله ـــ خرجتْ تلك الفكرة بصورةِ عنوانٍ وُسِمَ بـ(الجهود المُقارِنة في بيان أثر أهل البيت في آداب الأمم الأخرى) .
ومنذ ذلك الحين طفِقتُ أقلّب النظرَ فيه، وتساءلتُ هل سُبِق بدراسـة مشابهة في هذا الميدان؟ ولم تقع بين يديّ ــــ بعد جهدٍ جهيد ــــ أية دراسة أكاديمية تناولت وجهاتِ النظر المقارنة لأصحاب تلك الدراسات في تأثير أهل البيت عليهم السلام على الشعوب الإسلامية الأخرى عامّة، وبعد أن تيقّنت أنّ أرضَ بحثِيَ هذا بكرٌ ــــ بشهادة ذوي الاختصاص ـــــ عقدتُ العزمَ على الخوض في غمارِهِ، وحينئذٍ صرتُ كراكبِ الصعبة ؛ لأنّني بتُّ في قِبال كبار الدارسين المقارنين الذي درسوا “أثر أهل البيت في آداب الأمم الأخرى ” ، فكيف أتناول آراءهم في هذا الشأن وأناقشها، ولكن هَوَّن عليَ صعوبة ما أنا فيه أنّي وجدتُّ شيخي المشرف إلى جنبي يشدّ من أزري إن أنا وهنت، ويقيل عثرتي إن أنا هويت، فوضعنا ــــ بعد ذلك ــــ للبحث خطّةً حاولنا أن نلمَّ بها شتاتَهُ، ونحصرَ أبعادَه النائية، وتوزّعت تلك الخطة على تمهيدٍ وبابين بحسب مقتضيات الدراسة، وسم التمهيد بـ(“أدب أهل البيت المقارن” والمصطلحات الحاضنة)، وتكفل بطرح تسمية مقترحة لما نأمل أن يكون مصطلحا مستقبليا جديدا وسمه الباحث بـ “أدب أهل البيت المقارن” نهضت الدراسة على أسسه، فضلا عن البحث في مصطلحي الأدب الإسلامي والأدب الإسلامي المقارن بوصفهما مصطلحين حاضنين للتسمية المقترحة .
وقد حمل الباب الأول عنوان(الجهود المقارنة في بيان أثر أهل البيت في الأدب الفارسي)، وجاء في فصلين ، كان الأول منهما تحت عنوان ( جهود الدكتور الكرباسي)، أما الفصل الثاني فعقدته لدراسة (جهود المقارنين الآخرين)، وقد جاء في التقسيم على مبحثين، المبحث الأول منهما خصصته لدراسة جهود الدكتور حسين مجيب المصري، والمبحث الثاني لدراسة جهود الدكتور محمد السعيد عبد المؤمن رمضان.
أما الباب الثاني فقد جاء تحت عنوان (الجهود المقارنة في بيان أثر أهل البيت في آداب أخرى)، واشتمل على فصلين اثنين، تكفل الفصل الأول منهما بدراسة (جهود الدكتور الكرباسي في الأدبين الأردوي والبشتوي)، وقد جاء في التقسيم على مبحثين، الأول تناول ( جهوده في الأدب الأردوي)، والثاني تناول (جهوده في الأدب البشتوي)، وتكفّل الفصل الثاني بدراسة (الجهود المقارنة في بيان أثر أهل البيت في الأدب الغربي)، وقد جاء في التقسيم على مبحثين، الأول منهما عقدته لدراسة (الجهود المقارنة في الأدب الألباني)، والثاني لدراسة (الجهود المقارنة في الأدب الألماني والإنكليزي).
وقد خُتمتِ الدراسـة بخاتمـةٍ حوت أهم النتائـج التي تمخّضْ عنها هذان البابان بعد رحلتها الطويلـة مع وجهات نظر الدارسين المقارنين في هذا الموضوع .
وقد وجَدتْ هذه الدراسة منهجا إجرائيا سارت على وفقه جعلها تقع في ميدان “نقد النقد” المقارن الذي هو أداة إجرائية تختبر موضوع النقد المقارن وتدرسه، وتهتم بدراسة الخطاب النقدي في قضية ما فتحلل مكوناته الأساسية ثمّ تتجه نحو تقويمها[1].
فالمنهج المتّبع يقوم على استعراض جهود المقارنين ، وتصنيفها، وتقويمها ، والكشف عن انتماءاتها إلى التوجهات المقارنة المتمثلة بمدارس الأدب المقارن ، وتمّ ذلك كلّه بالسير على الخطوات الإجرائية الآتية :
1ـ استعراض الجهد المقارني المدروس .
2ـ بيان مكامن القوة والضعف فيه .
3ـ بيان حيادية الدارس وتجرده من عدمه ، والكشف عن الافرازات النفسية على أحكامه وتوجهاته في تعامله مع النصوص المدروسة .
4ـ الكشف عن توجهات الدارس المقارنية من خلال تعامله مع النصوص المدروسة وتوثيقها وذلك بفحص المقدمات والطروحات النظرية التي يمهّد بها للخوض في تلك النصوص ، فضلا عن طريقته الإجرائية في مقاربة النصوص .
ولابدّ من التنويه إلى أنّ موضوعَ الجهودِ المقارنةِ في بيان أثر أهل البيت – عليهم السلام– مشروعٌ كبيرٌ يستند على جهدٍ فكريّ شموليّ واسعٍ ، وعلى اشتغالات مقارنة ضخمة استطالت على عمر الأدب المقارَن العربي بل تعدّاه إلى بعض الجهود المترجمة عن الآداب الأخرى ، إذ اتسع به المكان ليشمَل القاراتِ المترامية ، والباحث في هذا المقام لا يمكن أن يستعرض تلك الجهودَ العصيّةَ على الحصر والتحديد، فمداها عشرات الكتب ومئات البحوث إنما سيلجأ إلى اصطفاءِ النماذجِ المقارنةِ المهمةِ التي تقترب من صفةِ الظاهرة ، والتي يمكن من خلالها استجماعُ النتائجِ الذهنيةِ لأولئك المقارنين في هذا المجال لينطلقَ من ذلك إلى رؤيةٍ واضحةٍ للصورةِ الواقعيةِ التي يمثلها أدبُ أهلِ البيت – عليهم السلام – في آداب الشعوب الأخرى .
ومن هنا كانت دراساتُ المقارنين المُحدَثين المنبعَ الأوّل الذي استقتْ ــــ هذه الدراسة ـــ مادتها منه، فكان على تلك الدراسات مدارها الأوّل والأخير، وقد اعتمدتْ بالدرجة الأساس على الدراسات الرائدة التأسيسيّة، فضلاً عن الدراسات المعتمدة والمُتَدَاولة بكثرة في الدراسات الأكاديميّة فانتخبت منها أبرزها، وأكثرها دورانًا في الخطاب المقارني الحديث الذي خصّ أهل البيت عليهم السلام بدراسته، فكان معيار الشيوع وكثرة التداول هو الضابط الأوّل الذي قَيَّدَ هذه الدراسة في الاختيار، وأمّا الضابط الآخر فهو تناول الدراسة المُخْتَارة لقضيّة “أثر أهل البيت في آداب الأمم الأخرى” ، وإعطاؤها حيزًا من اهتمامها.
وقبل الختام أجد أن الوفاء والرغبة في الإخلاص يُمليان عليَ أن أشكر ههنا من كانت فضائله عليَ كالغيث المنهمر، وكالوابل الهطل ، أعني شيخي وأُستاذي الأستاذ الدكتور خضير عباس درويش ؛ لما أولاني من العنايّة، وأفاض عليَ من الإحسان، فالله أتضرع وإليه أرغب بأن يمدّ في عمره، ويجعل باب علمه مفتوحًا للراغبين وأن ينيله شرف الدارين بحقّ سيد المرسلين .
وفي الختام أقول : إنَّنِي قد بذلتُ في سبيلِ إعدادِ هذه الدراسة قُصارى ما أستطيع بذله، ولم أدّخر جهدًا في سبيل إخراجها على وجهٍ مُرْضٍ، فإنْ أنا أصبتّ في ذلك فما ذاك إلاّ من عندِ ربِّي، وإنْ كانت الأخرى فهي من عندي، وحسبي أنّي حاولت، ويُهوّن عليَ أنِّي طالبُ علمٍ وضعَ خُطُواتِه الأولى في دربِ العلمِ الطويلة، فهذه الدراسة لا يمكن لها أن تدعي الكمال، فهي محاولة متواضعة ، تحاول أن تمهد هذا الطريق الشائك أمام دراسات أكثر عمقا.
فأسألُ اللهَ بعد ذلك التسديد في العمل، والنجاةَ من الهذر، وعليه أتوكَّل وهو حسبي فيما أقول وأفعل .
[1] ينظر: نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر ، محمّد الدَّغمُومي، ط1، منشورات كلية الآداب بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1420هـ ـ 1999م : 113-116.