المقدمة
الحمدُ لله الذي أنزل كتابه الكريم بلسانٍ عربي مبين، والصلاةُ والسلامُ على رسولهِ الأمين محمدٍ خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
أما بعد :
فلا ريبَ أنّ البحث اللساني العربي يفرض علينا إجمالاً أنْ ننظرَ في ماضيه ؛ لكي نكشفَ التعاقب المعرفي في مراحل تطوره ، ولنقفَ أيضاً على لحمة المفاهيم والتصــورات التي كان ( اللسان ) موضوعها ، وعميلةُ الكشف تلك يجب أنْ تنطلق من الحلقة ِ واللبنـــــــة الأولى، التي انطــــــلق منها البحث والدرس اللساني العربي القديم يأخذُ شكله الممييز وبنــــــــــــــاءهُ المتكامل.
ولاشكَ أنّ عصر الإمام جعفر الصادق(u) كان عصرَ ابتداءِ النهضة العلمــــية ؛ إذ اتَّجهت الأفكار نحو طلب العلوم ، وأقبل الناسُ على اكتساب المعارف ، وكان الوقت ملائماً والظـروف مساعدة للإمام جعفر الصادق(u) ، على بث ما لديه من الكنوز العلمية والمعرفية ؛ ولذا عمل الإمام جعفر الصادق(u) على نشر العلم والمعرفة ، وإعداد جيلٍ رائدٍ منفتح في إيمانه وتفكيره ، يتولى قيادة الأمة ؛ ومن ثم فإن المدة التي عاشها الإمام تعد مرحلة تأسيسية ، وتأصيلية لعلوم كثيرة ، فقد نقل عن أحد المستشرقين قوله : (( يصح لنا القول بأن الصادق إن لم يكن هو الرائد المجدد في جميع العلوم فهو في أدنى ريب في طليعة أولئك المجددين ))([1]).
ومن بين تلك العلوم التي كان رائداً فيها (u) ( اللسانيات ) فقد كانت له آراء لسانية قــيّمة ولاسيما في الجانب النظري منها ، تلك الآراء تمثل اللبنات الأولى المكونة للدرس اللساني العربي القديم ؛ لذا فإن إحياء تراث الإمام جعفر الصادق(u) ، وفكره النبوي يعد من متطلبات النهضة العلمية للدرس اللساني الحديث ؛ لذا اقترح عليَّ (أ. م. د. حسن عبد الغني الأسدي) أن يكون موضوع دراستي لنيل درجة الماجستير موسوماً بــ(التفكير اللساني عند الامام جعفر الصادق (u)148هـ) ؛ ويشيـــرُ مصطلح (التفكير) إلى أن آراء الامام الصادق(u) لم تكن دائماً حصيلة بحثٍ ومدارسةٍ لسانية مستقلة ، بقدر ما كان بعضها مظهراً من مظاهر تجليات التفكير الديني لديه ، فهو(u) لم يتكلم في اللغة بوصفها موضوع اهتمامهِ ، وبؤرة مشاغله بمعزلٍ عن كل خلفيةٍ ؛ بل نظرَ إليها كما نظرَ إلى التفسير والفقهِ وأصوله ، وعلم الكلام ، والفلك و الكيمياء …على أنها أدوات تسمح، بعرض الأفكار الحقيقية التي يود الوصول إليها ، تلك الأفكار المتعلقة بتوحيد الله – تعالى، وإبراز حكمتهِ – سبحانه – في الخلق ، ولم يغب عنَّا البعد العقيدي الذي يمثله الإمام جعفر الصادق(u) بوصفه سادس الأئمة من أهل البيت المعصومين الذين طهّرهم الله تطهيرا ، إلا أننا آثرنا أن ننظر إلى هذا الإمام(u) في هذه المرحلة من جهة غير هذه الجهة ؛ بل من جهة كونه شخصية علمية رائدة لها جهدها الخاص في إثراء الدرس اللساني العربي .
أّما مصطلحُ ( اللسان ) فله ما يسوّغهُ من حيث الاستعمال سواء أكان الدرسُ اللساني قديماً ، أم حديثاً؛ فلفظ ( اللغة ) لم يرد في النص القرآني؛ وإنّما ورد لفظ ( اللسان ) ، فضلاً عن ذلك أنَّ لفظ اللغة عادةً ما يلتبسُ باللهجةِ في قواميس العرب، ولا يُفهمُ المقصود إلّا عبر السياق اللغوي وغير اللغوي وفي هذا تكليف.
وقـــد اقتضت طبيعة المادة المتحصل عليــها أن يقســــم البحث على ثلاثة فصول يتقدمها تمهيد وتعقبها خاتمة ضَمَّت أبرز النتائج التي توصلت إليها .
أمّا التمهيد فجاء ضامّاً نقطتين، ثبت في الأول منهما ( بواكير التفكير اللساني في الحضارة العربية )، وفي ثانيهما سطرت أسطراً (الإمام جعفر الصادق(u) وجوانب من حياته العلمية) وامّا الفصل الاول ، والموسوم بــــ ( التفكير الصوتي عند الإمام جعفر الصادق (u) ) فجاء محمّلاً بثلاثة مباحث هي كالآتي :
المبحث الاول : والمعنون بــ (مفهوم الصوت والحرف ومصطلحات الإمام جعفر الصادق (u) فقد ضم ثلاثة محاور هي :
الأول : بين مصطلحي الصوت والحرف ، وفيه :
1 : الصوت والحرف لغة .
2 : مصطلحا الصوت والحرف عند الإمام جعفر الصادق(u) .
الثاني : مصطلحات الإمام جعفر الصادق (u) الصوتية .
الثالث : الحروف وعددها عند الإمام جعفر الصادق(u) .
المبحث الثاني : علم الأصوات النطقي عند الإمام جعفر الصادق(u) .
وقد ضم أربعة محاور هي :
الاول : دلالة ( مخرج الصوت ) عند الإمام جعفر الصادق(u) .
الثاني : آلة إنتاج الصوت ومخارجه عند الإمام جعفر الصادق(u).
الثالث : آلة صياغة الحروف عند الإمام جعفر الصادق(u).
الرابع : الجهاز النطقي عند الإمام جعفر الصادق(u) ، وتشبيهه بالمزمار
الأعظم .
المبحث الثالث : علمي الصوت الفيزيائي والسمعي عند الإمام جعفر الصادق (u)
وقد ضم محورين هما :
الاول : علم الأصوات الفيزيائي عند الإمام جعفر الصادق (u) .
الثاني : علم الأصوات السمعي عند الإمام جعفر الصادق (u) .
أما الفصل الثاني ، والموسوم بــــ (التفكير النحوي والصرفي عند الإمام جعفر الصادق(u)
فجاء في ثلاثة مباحث هي :
المبحث الاول : المناسبة بين أصول الفقه عند الإمام جعفر الصادق(u) وأصول النحو .
وضم محورين :
الاول : أثر مصطلحات الإمام جعفر الصادق (u) الفقهية في مصطلحات النحاة .
الثاني : طبيعة الاستدلال لأصول الفقه عند الإمام جعفر الصادق (u) وأثرها بالنحو وأصوله في الاستدلال وبناء القواعد .
المبحث الثاني : عود الضمائر في القرآن الكريم عند الإمام جعفر الصادق (u) .
المبحث الثالث : مسائل نحوية وصرفية اشتقاقية في القرآن الكريم ، عند الإمام جعفر الصادق(u) وضم محورين :
الأول : مسائل نحوية متفرقة .
الثاني : مسائل صرفية اشتقاقية في القرآن الكريم ، عند الإمام جعفر الصادق(u).
أما الفصل الثالث ، الموسوم بـ ( التفكير الدلالي عند الإمام جعفر الصادق (u) فقد جاء في
ثلاثة مباحث هي :
المبحث الاول : العلاقة بين الدال والمدلول عند الإمام جعفر الصادق (u) .
المبحث الثاني : توجهات الدلالة عند الإمام جعفر الصادق (u) وجاء في محورين :
الاول : دلالة الالفاظ القرآنية والحديثية عند الإمام جعفر الصادق (u) .
الثاني: الفروق الدلالية للألفاظ القرآنية والحديثية عند الإمام جعفر الصادق(u).
المبحث الثالث : قراءات الإمام جعفر الصادق (u) القرآنية وأثرها في توجيه المعنى .
ثم شفعت هذا كله بخاتمة تضمنت أهم نتائج البحث التي توصل إليها ، ولابدَّ لي من الإشارة إلى التفاوت الحاصل في أحجام الفصول والمباحث ؛ وذلك لطبيعة المادة التي حتَّمـــت مثل هذا التفاوت .
وقد نهجت منهجاً علمياً معتمداً على المنهج الوصفي التحليلي الذي أردت به النفاذَ إلى بنـية الآراء اللسانية عند الإمام الصادق(u) ،هذا المنهج الذي يستثمر الجهات التي يمكن أنْ يلجَ منها ؛ لاستكشاف المعلومة اللغوية ،إذ ارتكز البحث على إشارة الباحث إلى رأي الامام الصادق(u) ، وموازنته بآراء غيره من العلماء القدماء والمحدثين بغية الموازنة بينه والدرس اللساني القديم والحديث .
واعتمدت الدراسة على مصادرَ ، ومراجعَ كثيرة ، منها لغوية ، وصوتية، وصرفية ، ونحوية ، ودلالية ، وقبل هذا وذاك اعتمدنا ذلك كله من أجل النظر في المصادر التي دونت وروت آراء الإمام جعفر الصادق(u) اللسانية ، والتي في مقدمتها كتاب ( توحيد المفضل ) و(الهفت الشريف)، الكتابان اللذان أملاهما الإمام الصادق(u) على تلميذه المفضل بن عمر الجعفي ، وغيرهما من كتب المذاهب الإسلامية التي ضمَّت بين دفتيها آراء لسانية للإمام جعفر الصادق(u).
أما الصعوبات التي اعترضتني فيمكن إجمالها فيما يأتي : تداخل المسائل اللسانية المنقولة عنـــه بالمسائل الفقهية والعقائدية والفلسفية ؛ ولاسيما المنطقية منها ؛ مما دفعني إلى مطالعة جملة من العلوم التي تعــد مساعدة لعلم اللغة ، مع تناثر آرائه اللسانيـــة في كتب أصحابه وتلامذته الثقات، أضف إلى ذلك الإيجاز المفرط في عرض بعض الأفكار ، مما يستــــــدعي عملا مضنيا ؛ لإرجاع الافكار إلى أصولها.
وما أختم به مقدمة البحث أنْه ما كان لهذه الرسالة أن تكتمل لولا فضل الله_ تبارك وتعالى _ كما أني مدينٌ بالشكر لمَن تفضّل عليّ بإشرافه على البحث ، وتقديم الملاحظات المقوِّمة ، الأستاذ المساعد الدكتور ( حسن عبد الغني الأسدي ) ، فإليه مني جزيل الشكر والامتنان ، وجزاه الله عني وعن طلابه خير الجزاء واكرمه .
وختاماً فإذا كنت قد وفيت البحث حقه وأنصفت الموضوع فذلك ما أهدف اليه وما أجهدت نفسي من أجله ، وإن يكن غير ذلك فعزائي أني لم أدخر وسعا أو طاقة في سبيله .
الباحث
[1] – الإمام جعفر الصادق (u) كما عرفه علماء الغرب :157.