المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علّم بالقلم ، علم الأنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على صفوة خلقه ، وأشرف رُسله محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وعلى أصحابه الغُر الميامين .
أما بعـــد …
فيبقى للتراث عبقٌ يفوح في كل حينٍ ، ولا سيما عندما نقلب صفحات مظانِّه التي عرفت ألواناً كثيرة من أمّات الكتب الموسوعية في الادب العربيّ، والوانه، وما يلحق به من الأحداث التاريخية والمعلومات العامة وغيرها، وغالباً ما تضم هذه الموسوعات بين دفتيها نصوصاً شعرية وامثالاً عربية ، وتراكيب لغوية تتخللها نوادر، وطرائف أدبية، وقضايا نحوية وبلاغية، واحداث تاريخية ، وسير أعلام ومعلومات عامة.
لذا ألتفت إليها الباحثون والدارسون منذ أمدٍ غير بعيد، ونظروا في جوانب من هذه الموسوعات يقارنون، ويوازنون، ونتج عن هذا العمل الدؤوب دراسات جادة كشفت عن أسرار الصناعة في نتاجات الأدباء شعراً ونثراً ونقداً ، وعلى الرغم من ذلك بقيت اخرى تنتظر النور ليتصفح فيها الباحثون جهود اصحابها الذين قضوا سنّي حياتهم بين المادة الادبية جمعاً وتدويناً وتعليقاً، وإلى هذه الفئة ينتمي كتاب ( زاد الرفاق) لأبي المظفر محمد بن احمد أبن اسحاق المعروف بالأبيوردي ( ت507 هـ)، وقد قام الدكتور عمر الأسعد بتحقيق نسخته المخطوطة بعدما عُثر عليها بتكليف من ( مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي ) ، و كتاب (زاد الرفاق) مطوّل يقع في جزأين ويحتوي على ( 1182) صفحة ، فكانت الطبعة الاولى منه عام 2012م ، بمطبعة مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث الذي لم يحظ بعد تحقيقه بدراسة تستخلص ما فيه من جهود أدبية ونقدية .
وقد نبه المحقق الى أهمية هذا السفر التراثي الجليل بما حواه من موسوعات شعرية، ونثرية، ومسائل لغوية، ومعارف عامة؛ فمؤلفه قد أخذ من كلّ علمٍ طرفاً، وما يعني الباحث منه الجهود الادبية والنقدية المتناثرة في تضاعيف الكتاب .
ومما يعطي الكتاب اهمية خاصة انه ضمّ نصوصاً شعرية ونثرية ذات مستوى مُمَيّز في الاختيار، والتنسيق من عصور أدبية مختلفة لشعراء غير معروفين، وشعراء مُقِلّين، ومن قصائد ومقطعات، ونُتف، وأبيات يتيمة، وأبيات غير معروفة ولا متداولة، وأخرى مجهولة القائل، لم تُعرف إلا عن طريقه، فضلاً عمّا يكشف هذا السفر التراثي عن شخصية لها منزلتها الأدبية إذ كان الأبيوردي رجلاً متنوع الاهتمامات، موسوعي الثقافة فقد كان لغوياً، ونسابةً، ومُحدثًا، وشاعراً ظريفًا، وراويةً للأدب العربي، وكاتباً مترسلاً ، ومن هنا دعت الحاجة الى وضع دراسة تجمع تلك الجهود، وتناقشها مناقشة علمية موضوعية، فجاءت دراستنا هذه بعنوان ( الجهود الادبية والنقدية في كتاب زاد الرفاق ) لأبي المظفر الابيوردي (ت 507 هـ)، اما الذي قاد الباحث الى هذه الدراسة أمران :
الأول :- رغبة الباحث المُلحة في أن يحظى تراثنا العربي بالدراسة والبحث، ذلك التراث الذي يشكل الأساس لثقافتنا المعاصرة ولا سيما ما يحتاج منه إلى دراسة وتحقيق.
والثاني :- إيمان الباحث بأن مثل هذه الجهود تُسهم في بناء تصور للأدب العربي ونقده، وموضوعات بحثهما لأهميتها في رفد المكتبة العربية بما ينفعها.
ولا يفوتني هنا أن أشكر استاذي الفاضل الاستاذ المساعد الدكتور (حسن حبيب الكريطي) رئيس قسم اللغة العربية الذي اقترح عليّ الموضوع ونبه على جدته ، إذ كان له الأثر الواضح في وضع اللبنة الاولى من جزئيات هذا البحث، فقد وضّح لي أهمية الموضوع، وما يحتاجه من جهد كبير وبحث مُضنٍ، فملأ نفسي إصراراً على خوض غمار هذا البحث، فضلاً عما أبداه لي من عونٍ، ومساعدة في توفير نسخة الكتاب فجزاه الله عني، وعن طلبة العلم خير الجزاء.
وقد اقتضت طبيعة البحث بعد التشاور مع أستاذي المشرف الاستاذ المساعد الدكتور (حربي نعيم الشبلي) أن توزع خطة الدراسة على مقدمة، وتمهيد، وفصول خمسة، تقفوها خاتمة. وتفصيل ذلك على النحو الآتي :
سُلط الضوء في التمهيد على ملامحٍ من الحياة العامة (السياسية، والاجتماعية، والأدبية) ، في العصر العباسي ابان القرن الخامس للهجرة، لنتبين أثرها البالغ في توجيه اختيارات الابيوردي المجموعة في هذا الكتاب ، ثم عرضنا فيه الى جوانب من حياة المؤلف، ووصف الكتاب، وفكرته، ومضمونه، ومنهجه بوصفه موضوع الدراسة، والمحور الأساس الذي يدور حوله البحث .
وقد خُصص الفصل الاول لدراسة الشعر المتمثل بالاتجاهات الموضوعية للنصوص الشعرية في ضوء استقراء موضوعات الشعر في الكتاب، فجاء موضوع الفخر في مقدمتها. لنختم دراستنا لها بموضوع الهجاء، وهذه الموضوعات بمجملها تمثل المادة الشعرية التي قدّمها الابيوردي .
ووقفَ الفصل الثاني عند دراسة الخصائص الفنية التي وسمت بها أشعار شعراء (زاد الرفاق)، وذلك عن طريق مباحث ثلاثة، وقفنا في المبحث الاول عند اللغة بشقيها الالفاظ والتراكيب ، ثمّ وقفنا في المبحث الثاني عند الصورة الفنية المتمثلة بوسائل تشكيلها على الوجه الاتي: ( التشبيه – الاستعارة – الكناية )، وأنماط الصور المتمثلة بالصورة الحسية، والتراسلية ، والذهنية ، وتناولنا في المبحث الثالث الإيقاع بضربيه الداخلي والخارجي، وهو من اكبر الفصول حجماً بسبب اتساع مادته، وتوافرها في الكتاب .
وعرض الفصل الثالث نثر الأدباء في كتاب (زاد الرفاق)، فقد ركّز في الجانب الموضوعي في ضوء استقراء موضوعات النثر في الكتاب مبتدئين بأكثرها حضورًا، وهي: الامثال، ثم الرسائل، فالحِكَم، فالوصف، فالدعاء، فالمحاورات، فالمُلح والنوادر، فالوصايا، وأخيراً المفاخرة. وهي في مجموعها تُمثل المادة النثرية المتنوعة والموزعة على اتجاهات النثر العربي .
أما الفصل الرابع : فسلط الضوء على الخصائص الفنية في النصوص النثرية بوساطة مباحث اربعة ، المبحث الاول: تعرض لدراسة البناء الفني في الرسائل ، ثمّ تعرض المبحث الثاني لدراسة اللغة التي تمثلت في الالفاظ والتراكيب ، وخُصص المبحث الثالث لدراسة الصورة البيانية ، واخيراً تناولنا في المبحث الرابع الفنون البديعية المتمثلة بالتنغيم الموسيقي المتأتي من بعض فنون علم البديع كالسجع والجناس اولاً، ودراسة الطباق، والاقتباس، والتضمين، وأثرها في النصّ الأدبي ثانياً.
وأما الفصل الخامس فقد توزع على مبحثين: الاول منها عالج القضايا النقدية التي الابيوردي في كتابه كالسرقات الأدبية، والموازنات، والقديم والحديث، واللفظ والمعنى، والطبع، والصنعة ، وقضايا نقدية اخرى كالاستحسان والاعجاب، وعيوب الشعراء، وتوظيف المصطلح النقدي . واختص المبحث الثاني بدراسة الرواية الادبية في كتاب (زاد الرفاق) في محورين : الاول رواية الشعر، والثاني رواية الامثال.
ومن المناسب ان نشير الى ان مراعاة حجم الفصول وتناسبها من الامور الاكاديمية التي ينبغي ان يراعيها الباحث وكانت هذه المسألة وراء توزيع خطتنا على فصول دون الابواب بعد ما وجد الباحث أن الجهود النقدية لا تتحمل ان تكون باباً ، وانما هي فصل لا غير لذلك اضطررنا الى جعل دراسة الشعر في فصلين الاول موضوعي والثاني فني، وكذلك الحال مع النثر فضمنا بذلك التوازن الكمي بين الفصول .
وأما منهج البحث فهو المنهج الوصفي التحليلي، وينتهج الاستقراء والمقارنة والاستنتاج، أي أنه يقوم على تتبع الجهود الأدبية والنقدية، مثلما يقوم على تعليلها، والحكم عليها، حكماً موضوعيا، مستعينًا بالمنهج التاريخي في بعض المواطن التي تستدعي تتبع النصوص من أجل تحري الدقة في الحكم عليها. وهي الغاية التي توخاها الباحث على مدى بحثه.
وقد اوجزت خاتمة البحث، أهم الاستنتاجات التي توصل اليها الباحث في تعامله مع الجهود الأدبية والنقدية في كتاب (زاد الرفاق) .
ثُمّ تبعها ملحق بالأعلام لتراجم بعض الشخصيات التي وردت في هذا البحث، ورأينا أنها تستحق الترجمة استكمالاً لطبيعة البحث العلمي، لذلك لم اعرف بها في الهامش .
وتنوعت مصادر البحث ومراجعه. فكان في مقدمتها كتاب (زاد الرفاق) نفسهُ الذي كان محور البحث، ثُم من المصادر والمراجع الأدبية، والتاريخية، وكتب التراجم، وكتب البلاغة والنقد القديمة والحديثة، والمعجمات اللغوية، والدواوين الشعرية، الى جانب عددٍ من الأطاريح والرسائل الجامعية، والدوريات العربية، على نحو ما نجده في ثبت المصادر والمراجع.
وأرى من الواجب هنا أن أُشير الى أمور عدة تتعلق بالمنهج المتبّع في التعامل مع مادة الكتاب وهي على النحو الآتي :
1- أستعمل الباحث لفظة (الشاعر) في مواطن متعددة من البحث وذلك لعدم معرفة اسم الشاعر فلم يذكر الابيوردي – في عدد كبير من مواطن كتابه – اسماء أصحاب النصوص التي اختارها ولم يعثر محقق الكتاب عليهم أيضاً .
2- حاول الباحث ان يسلط الضوء على النماذج الشعرية والنثرية غير المعروفة، أو غير المتداولة، لبيان قيمتها الأدبية وإجلائها للقارئ.
3- إنّ ما ورد في كتاب (زاد الرفاق) من جهود في اختيارات مؤلفه الشعرية والنثرية جاءت في سياق الاستشهاد على قضية لغوية، أو عروضية، أو لتعضيد قاعدة نحوية ، أو تبيين وتفسير مثل سائر، فكان الابيوردي يرمي من وراء ذكرها الى إيضاح ما يستحق إيضاحه. فحاول الباحث توجيه تلك الاختيارات، وتثبيتها في الفصول المتعلقة بالشعر والنثر ودراستهما دراسة موضوعية فنية .
4- عمل الباحث على جمع وتبويب جهود الابيوردي النقدية المتناثرة بين طيات كتابه، ودراستها في فصل خاص عقد لهذا الأمر، لانّ ما ورد من تعليقات نقدية جاءت في سياق الشرح والإيضاح لمعاني الابيات الشعرية. او ما يجيء من التعليق النقدي متصلاً بكلام مسهب لا علاقة له بالنقد.
5- قام الباحث بتتبع النصوص الشعرية التي ذكرها الابيوردي في كتابه (زاد الرفاق) بالرجوع الى دواوين الشعراء والمجموعات الشعرية لمعرفة اختلاف الرواية بينما وصل من أشعارهم في الدواوين وما رواه الابيوردي لهم .
وارجو أن أكون قد وفقت في تقديم إضافة جديدة تخدم تُراثنا الأدبي تتمثل في الكشف عن جانب مجهول لأثر أدبيٍّ مهم يعود لأديب من الأدباء والمؤلفين العرب ، ويمثل هذا الأثر تراثاُ ضخماً من معارفنا الأدبية النقدية .