بسم الله الرحمن الرحيم
الـحمدُ لله ربِّ الـعالمين ، وأفضلُ الصلاةِ وأتمُ التسـليمِ على أكـرمِ خلقِ اللهِ أجمعين أبي القاسم محمّد وآل بيته الطيبين الطاهرين .
أمّا بعدُ :
فلا شـك في أنَّ الدرس اللـغوي شهد تطوراً كبيراً في العقد الثاني من الـقرن العشـرين ، ومنذ ذلك الوقت تطور هـذا الدرس ، إذ أصبح ( علم اللغة ) مثالاً للعلوم الاجتماعية جميعاً بما طوّر من منهج ، وبما قدّم من إجراءات ، وبما أسس من مصطلح ، وارتباط ( علم اللغة ) بـ ( العلم ) أدى مـن بـعد ذلك إلـى ظهور مجالات جـديدة لـم يكـن للبـاحثين عـهد بـها كـعلم اللـغة الاجتماعي ، وعلم اللغة النفسي ، وعلم اللغة التاريخي ، وعلم اللغة الجغرافي … الخ ، ثم ما ظهر بـعد ذلك مـن محاولات الانتقال من وصف الجملة وأجزائها إلى وصف النّصّ الكـامل ، وهو ما عُرِفَ بـ ( علـم لغة النّصّ )، أو ( لسـانيّات النّصّ ) الأمر الذي كان سبباً في اختيار هذه الدراسة في ضوء علم لغة النّصّ، بوصفه فرعاً معرفياً من فروع علم اللغة .
فقد بدأ البحث في تحليل النّصّ بمجموعة من المحاولات ، وتعدُّ محاولـة هاريس عـام (1952م) أهـمَّها ، إذ أدتْ إلى نشأة هذا العلم ، حينما قدّم منهجاً لتحليل النصّ المترابط سواء أكان على مستوى النطق أم الكتابة ، وقد استعمل فيها إجراءات اللسـانيّات الوصفية بهدف اكتشـاف بنية النصّ ، وحتى يتحقق هـذا الـهدف رأى هاريس أنّه لا بـدَّ مـن تجاوز مشـكلتين وقعت فيها الدراسـات اللـغوية الـوصفية والسلوكية هما :-
1- قصر الدراسة على الجمل والعلاقات فيما بين أجزاء الجملة الواحدة .
2- الفصل بين اللغة والموقف الاجتماعي مما يحول دون الفهم الصحيح .
ثم تلتها محاولات للغويين كُثر أمثال( هيمبولد) و ( مالينوفسـكي) إلا أنَّ المحاولة الرائدة في هذا المجال هي تلك المحاولة التي قدّمها ( هاليداي ) و (رقية حسن ) عام (1976م )، لبحث وسـائل الاتّساق التي تتجاوز مستوى الجملة تطبيقاً على اللغة الانكليزية .
وفي عام (1980م ) ألفَ ( فان دايك ) كتابهُ ( علم النصّ مدخل متداخل الاختصاصات ) لدراسـة النصّ من مناظير مختلفة ، المنظور الـدلالي والبلاغي والأسـلوبي والاجتماعي ، وهي زوايا مختلفة لمحاولة فـهم النصّ وتفسـير عمليتي الإنتاج والتلقي .
وفي عام ( 1981م ) قدّمَ ( دي بوجراند ) و ( دريسـلر) منهجاً شـاملاً جمعا فيه الجهود السـابقة عليهما ، ووضعا مدخلاً لدراسة النصّ عبر سـبعة معايير للـنصّيّة هـي : { الاتّسـاق ، والانسـجام ، والقصدية ، والـمقبوليّة ، والإعـلاميّة ، و الـمـقاميّة ، والتناص } ، فارتكن الباحث إلى هذا المنهج لما فيه من شمولية ، واعْتمدَهُ في دراسة (مكاتيب الرسول)(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بصورة أساسية مع الإفادة من الجهود الأخرى للباحثين الغربيين والعـرب الـقدامى والمحدثين وتـوجيهها في إطار النظرية النصيّة ، مع الأخذ بـالحسبان أنَّ هذه المكاتيب لها خصوصيتها اللغوية بوصفها أثراً كتابياً للرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تكشـف عن إنموذج متميز للإنتاج اللغوي ، فمكاتيب الرسـول (صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تُعدُّ من النصوص المهمة في تعلم اللغة ، فضلاً عن أنها منجم للكثير من الألفاظ والأسـاليب الفصيحة ، فَسَـعَتْ هذه الدراسـة إلى الكشف عن مكنونات هذه المكاتيب عبـر اللسـانيّات النـصّيّة ، وذلك بجعلـها مـرتكزاً لمـدِّ جسـور ارتبـاط وتـحاور بيـن قراءات الماضي ورؤاه ،وقـراءة الحاضر لخلق بيئة نصيّة تصحُّ للتمازج والتـداخل بين التراث والمعاصرة ، مـفيدين منها في دراسـة النصوص دراسـة حـداثية ، كـما سعت هذه الدراسة إلى تعميق الفهم العام لهذه النصوص ، لا لكونها نصوصاً لغوية فحسـب ، ولكن بوصفها مجالاً خصباً ؛ للتفاعل بين منتج هذه النصوص ومتلقيها ، وإبراز مـدى تفاعلها مع السـياقات الثقافية والاجتماعية التي أسـهمت فـي إنتاجـها .
وهذا ما جعل الباحث يواجه صعوبة في استنطاق هذه النصوص حيث إنّه لا يوجد شرح خاص بـ ( مكاتيب الرسول ) (صلّى الله عليه وآله وسلّم ) التي اعتمدها الباحث فارتكز على المعاني المعجمية وبعض النقول ، حتى في ظل اعتماده علـى الطبعة الأخيرة المزيدة والمنقحة لـ (مكاتيب الرسول )(صلّى الله عليه وآله وسلّم) للشيخ علي بن حسين علي الأحمدي الميانجي (ت 1421هـ ) ، فضلاً عن صعوبة أخرى هي الحصول على المصادر النّصيّة المترجمة ، فأغلب المصادر النّصيّة غير مترجم .
وأسعفتِ الباحثَ بعضُ دراساتٍ سابقة منها ما أصَّل للسانيات النصيّة ، ومنها ما كان دراسة تطبيقية فيها ، من أبرزها ( علم النصّ مدخل متداخل الاختصاصات ) لفان دايك ، ترجمة الدكتور سـعيد حسـن بحيري ، و(مـدخل إلى علم اللغة النصّي ) لفولفجانج هاينة من و ديتر فيهفيجر ، ترجمة الدكتور فالح بن شبيب العجمي ، و ( علـم لـغة النصّ المفاهيم والاتجاهات ) للدكتور سـعيد حسـن بحيري و ( لسـانيات النصّ مدخل إلى انسجام الخطاب ) لمحمّد خطابي .
أمّا أبرز الدراسـات السـابقة التي درست النظرية والتطبيق فهي ( علـم لـغة النّصّ النظرية والتطبيق ) للدكتورة عزة شبل محمّد ، و ( لسانيّات النّصّ النظرية والـتطبيق مـقامات الـهمذاني أنـموذجاً ) لـليندة قيّاس ، و ( علـم اللـغة النصي بيـن النظرية والتطبيق – دراسة تطبيقية على السـور المكية ) للدكتور صبحي إبراهيم الفقي ، ومـظاهر الاتّسـاق والانسجام في تحليل الخطاب النبوي في رقائق صحيح البخاري نموذجاً )( بحث ) لعاصم شحادة علي ، و( علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق الخطابة النبوية نموذجاً ) ( بحث في مجلة علوم اللغة ) .
ما حدا أنْ تكون خطة دراسة هذه المكاتيب في ثلاثة فصول يتقدمها تمهيد فيه تعريف بالمؤلِف والمؤلَف،ومدخل نظري في مصطلحي النصّ، وعلم لغة النصّ ونشأته .
أمّا الفصل الأول ففيه دراسة ما يتصل بالنصّ نفسه ، وهما معيارا الاتّساق ، والانسجام .
أمّا الفصل الثاني فدرس مـا يتصل بمسـتعملي النصّ ، وهي معايير القصديّة ، و المقبوليّة ، والإعلاميّة .
واشـتغل الفصل الثالث بما يتصل بالسِّـياق الخارجي ، وهما معيارا المقاميّة ، والتناص .
وقد أدى تقسيم العمل بحسب عناصر البناء على وفق معايير دي بوجراند النصّيّة إلى أنْ تتفاوت هذه الفصول حجماً ،فكان الفصل الأول أكبرها والثاني أوسطها والثالث أقلها .
وخُتمَ البحثُ بخاتمة شملت أهم النتائج التي توصل البحث إليها .
أمّا بعدُ وقد استوت فصول الأطروحة وظهرت للنور ، أرى مِنْ دواعي الوفاء والالتزام تقديم جزيل الشكر ، وعظيم الامتنان لأستاذتي الفاضلة المشرفة على هذه الأطروحة الأُسـتاذة الدكتورة رجاء عجيل إبراهيم الحسـناوي ، لما بذلته مـن جهد ومتابعة وتقديـم عـون ، ولاسـيما مـا أمـدتني به من مصادر رئيسة قامت عليها فصول الأطروحة . وعجزاً عن الشكر ألوذ بالدعاء لله – تبارك و تعالى – بأنْ يمنَّ عليها بالعافية وتمامها وشمول السلامة ودوامها .
وأخيراً وليـس آخـراً ، فإنني لا أقـول بالكـمال لـهذه الأطروحة ، ولكن أقـول بالسعي الجاد والمخلص طلباً للعلم والحقيقة ،عازماً ومتوكلاً لأنْ تظهر على أحسن وجه وتقبل بالـقبول الحسـن ، فإن كانت علـى الـوجه الذي إليه سـعيت فبـفضل الله وتوفيقه أولاً ، ولحسن الإرشاد والتوجيه للمشرفة ثانياً ، وإنْ لم تكن كذلك فحسبي شفيعاً قلة خبرتي وحداثة دربتي وصعوبة المركب .
وأسـأل الله الـعزيز الـحكيم ، أنْ يعينني ويمكنني فـي قابل الأيـام مـفيداً من توجيهات أسـاتذتي الأكارم ، وناشـداً ما هو أجدى وأنفع إنه سـميع مجيب ، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاةُ والسلامُ على نبينا محمّد وآله الطيبين الطاهرين .